الرئيسية | سرديات | السَّاكَنْ | عبد العزيز الراشدي

السَّاكَنْ | عبد العزيز الراشدي

 عبد العزيز الراشدي (المغرب):

 

1-السَّاكَنْ الأول

  • الله يعطيكِ المشي آمين !

   دعتْ عليْها عجوز، في أرذل العمر، من قرية صحراوية بعيدة، واستُجِيبَ لدعواتها فظلّت تمشي..

خطوُ المرأة الماشية يُسمَع ُ وصندلها يُطقطق في احتكاكه بالقدم. مشيُها سريع لكنه ليس رشيقا تماما، يُشبه مشي حمّالات الحطب في الصحراء، حين تُثقلهن الحُزم فلا يسرن مستقيمات بل ينثنين فيغري انثناءهن الرجال. أفكر فيها وفي مشيها وأقول إن السّاكن الذي يجعلها تمشي صعب ولا دواء له. أقول لنفسي لا يوهِمَنّك منظرها بأي شيء، لا تفكّر في شكلها بل في الداخل، فالساكن في القلب والدم لا يهدأ، ولكي تُدرك ما جرى لها وإلى أين مسيرها، عليك أن تتفكر في الخلق والآيات..

  هيّ ذي تمشي دون توقف كونها مشغولة بترتيب داخلها التي تشابكت خيوطه. وَقَعَ لها في ذلك اليوم البعيد ما وقع فهامَتْ. لو سألناها وهي تضرب في الأرض عما ضربها في الأعماق لما عَرَفَتْ تفاصيل الأمر. تُلازمها فقط صورة ما حصل في البداية؛ الصورة مشوّشة لكن يغشاها يقين المُذنب..ولكي ترتاح من ذنبها الذي أنْبَتَ الساكنَ في روحها مثل حبّة على الظهر، عليها أن تجد الحل لهذا مَشَتْ. تتذكّر البداية: كانت قَد استقبلتْ ضيوفا في قريتها، جاء الزوج بعد العصر على عجل يَجرّ سِلْهامه ويطلب منها إعداد الطعام لرجال سقطوا دون ترتيب. ذبحتْ دجاجةَ العشاء ونزعت ريشها وأحشاءها ونظّفَتْها ثم خرجت من منزلها في ثياب الدار عجلى وسكبَتْ الرماد و الميّاه الساخنة دون أن تُسمّي. وجاءت من أقصى الزقاق عجوز تسعى لم يعرف أحد من أين ظهرت فأمرتْها بحزمِ:

  • سَمّ ِالله !!

ضحكت المغرورة بشبابها،السريعة العجلى، فدعتِ العجوز عليها بالمشي وزادت على الدعوة آمين..

    لماذا اختارت العجوز المشي دعوة ولعنة؟ هل المشي عذاب ؟ مشي الداخل أم مشي الخارج أم مشي الروح تريد؟ وما الذي أغاظ العجوز وجعلها تدعو عليها فتسير؟ ما الذي أغاظها في ما يُسكب بعد العصر؟

     حسنا، فلتمش المرأة ما شاء ربّها وتبحث عن السكينة وعن نفض ما يَسكنها؛ هذا الذي أحسّته يتسرّب مثل دبيب النمل بين الضلوع، مثل ماء تحت الثوب. لِتمَرّغ رأسها، لو تشاء، في تراب الأضرحة الدّقيق الذي طحنتْهُ أقدام  تطلب الشفاء كي تهدأ أوجاعٌُها. أو لِتربط يديها ورجليها بكل الأغلال والسلاسل في سارية الضريح. لتَصعد العقبة المقدسة التي يجيئها الرجال والنساء والأطفال للشفاء من كلّ داء، وتتدحرج حتى أسفل المسار لَعَلّها تهمد.لتصعد التلّ (الذي سكَنَتْهُ وَلِيّة قديمة مباركة وهبتْ نفسها للزهد ودُفنتْ به فتَسمّى باسمها) فتصيح كثور هائج أو نمرة مجروحة في فلاة صعبة.لتذبح الدّْجَاجْ البَلْدِي وتغسل وجهها بالدم الأحمر وتركض حافية وراء ثور هائج يوم تُقامُ الوليمة للوليّ في الرحبة الواسعة للقصر القديم.لتَكسر كلّ أواني الدار قربَ المقبرة وتعود على أعقابها من حيث أتت دون أن تلتفت خلفها،لعلّ السَّاكَنْ يسكن. لكن هل يسكن؟ قُضي الأمر، والذي كان كان..

    قال الذين حكيتُ لهم حكايتها،قبلكم في هذا السوق، في هذا المقهى القصبي الذي نؤوب إليه بعد نهاية كلّ جمع أسبوعي، إنه  بعد أن سَكنها الذي لا يُسمّى غامرتْ ولم تكبحها الحواجز. طلّقها زوجها  بعد أن عاشَرتْهُ ليال وهيّ تركب القصب كالخيل وتركض في كلّ مكان مثل طفل نزق بعد الفجر، يُلائِمها الجوّ الحار فلا ينتبه الناس لأي صورة غير صورة ركْضِها في القرية بعد صلاة  الفجر فيستغفرون لها و يبسملون مكانها مرارا..باعت فدادين أبيها التي ورثت،جمعتْ نصيبها و دعت الفقهاء و أعدَّت “السَّلْكَة” على روح الوالدين. تخفّفَتْ في البيت العُلْوي من مصاغها البسيط ولم تحمل معها سوى همّها وخرجت لتَهيمَ على وجهها في الواحات بعد أن أضناها السّاكن.. أعيتْها الحيلة فلم تعد تستطيع الصبر بعد أنْ زَادَ الحَالُ عَلَيْها. وفي ليلة،خرجتْ تبغي السُّبل، من تراب إلى تراب، تموجُ بها الذكرى البعيدة وهي تسير، تلاحق الريح و ترصدُ معادلات الحياة الدائمة بين دواوير البلاد، تحاول أن تعرِف الحق من صورة أشيائه، وتبحث عن سبيل لعلّ الساكن يسكن بين أطلال الأضرحة والمزارات..

 ستقولون لي، يا من تعرفون قيمة الزمن وسخونة الوقت وكيّة الطريق:

إن عنفوانها الأخرق سيَترَوّض قريبا بعد أن تَنضج روحها، على مهل.قبلها كانوا أندادا للوقت فهشّمت كبرياءهم.

   أقول لا، فالساكن فيها لا يهدأ لأن له حضرة وشروطا وهي لا تريد أن تُطاوعه أو ربّما لا تعرف كيف..قد تقولون  إن الساكن يَسكُن حين يشيخ الإنسان أو يمرض، فالمرأة تجاوزت الخمسين وحالاتها تعدَّدَتْ مع الوقت وقد يفاجئها اكتئابُ اليأسِ والوحدة في قرية بعيدة فتنوح،وتريد الهدوء، فتعود إلى مستقرّ لها. فأقول لا سبيل، وأشير بأصبعي إلى جيوش من القوم هامت على وجهها و قبضها أرذل العمر لكن الفأرة لا تزال ساخنة في الدم..سأقول لكم إن سَاكن هذه المرأة مختلف؛ في قلب القلب لا يعرف الهرم..

     هي امرأة إذن، سكبتْ رمادا وماءً ساخنا عند الغروب في خلاء قريب فهَزَّ الهم قلبها كما هزّ الثور الأزلي كرة الأرض من قرن إلى قرن و دَخَلَها الدخيل مثل نمل  رقيق يمضي بين الثياب فارتعشت لوهلة، ثم ظلت ترتعش بعد أن دعَتْ العجوز عليها وغابتْ وتركتها مع السّاكن يهزّها..هاهي ذي تلبس الخلخال في رجليها وتحوم حول سارية الوليّ وتضع رأسها تحت الثوب الأخضر فتصعد إلى شميمها رائحة تراب عتيق تُبكيها وتُذكّرها بطفولتها آنَ كانت تجول بين الأضرحة مع أمّها بقراطيس الشمع وأعواد الثقاب؛ تحاول أن ترتاح للصوّر والرائحة فلا تستكين، سيقانها مرقّطة بالحناء كثعبان، تدور حول القبر الطويل، تدور وتدور مثل ثور حول ساقية حتى تتعبُ  فتبكي وتندم لأنها لم تعرف كيف تستجيب للشروط وقد جرّبتْ كلّ الأمور. ها هي ذي كذلك تصعد العقبة المقدّسة وتتدحرج من أعلى مع صبايا راغبات في العريس، ثم تسكب على رأسها ماء جَلَبته امرأة مجرِّبة من البحر البعيد.ماء ضمّ سبع موجات بحرية حرصت صاحبته على الوقوف عند حافة البحر واصطياده في كلّ مدّ. تسكبه المرأة على رأسها وتهذي بكلام موزون لعلّ ساكنها يرتاح. وهاهي ذي تضع قراطيس الشمع في كلّ ضريح تمر به وتتكئ على حائطه وتطلب الصفح وبعدها تغترف من تراب المزار وتحفظه في طرف ثوبها مثل تبر أو فضة لتمسح جبهتها ببركته قبل النوم وتحفظ القليل منه تحت المخدة مع الملح وأوراق الحناء كي يطرد الكوابيس والأرق. وها هي ذي تضع في كلّ “مِجْمَر” يصادفها في قرية من قرى الوادي قطعة من “الجّاوي” وقليلا من “الفاسوخ” وتتخطاه وتعود وتتخطاه وتعود. وها هي ذي وذي و ذي وذي وذي تمشي وتستريح ثم تمشي و تتعب وتستريح وتتعب وتبكي وتستريح فتضع يديها على عينيها عند باب ضريح بارد وتحكُّ الجفون وتطلع  لها الدوائر فترى  في تجلّي الحكّ ما ترى..

    ترى نفسها في المراح؛ الليلة باردة وهي تنام إلى جانب الزوج، تتغطى بالكثير من الأغطية ولا حلّ لارتجافها، الغرف عامرة بضيوف سقطوا فجأة دون سابق علم، جريد النخل والقصب قُرب منزلها  يُوشوشان تحت ضربات البرد. تنام مضطجعة على جنبها واللذة في المنتصف، والبَاردُ جنبَها حَصَدَ لذَّتَهُ قبل الأوان.لا تستطيع الحديث معه ولا هزّه ليستيقظ. لا  تستطيع تذكيره بأنّها تستحق لحظة صغيرة تنسى فيها الهمّ، وتشعر فيها بذاتها وكونها. لا تستطيع أن تقول له إنه بارد وسريع مثل سكين وإنّه يهيّج الساكن الذي بداخلها ويتركه مترجرجا..تسأل والأرق دليلها، والبارد جنبها يشخُر، هل السّاكن الذي يغطّي روحها ذكر أم خنـثى أم لذة مطوية في الجراب؟ حيوان أم شيطان؟ وشم أم كية ؟ربيع أم زمهرير؟ضعف الالتصاق أم هَوانُ النفس أم حظّ عاثر في ليلة سقط فيها الضيوف واستأثروا بالأغطية؟ وهل جاءها السّاكن عندما دعت عليها العجوز أم بسبب البارد جنبها؟

    تضطجع على الجنب غير راضية ولا مرضية والنوم يجافيها،فترى في منامها الرجل الذي يَشُوفُ وتعرف أنّ مصيرها بيده. كانت قد سمعت الكثير من الحكايات عن قوّته وتمكّنه، لكنّ ما لم تستطع أن تنسى هو رقبته الممتلئة التي جعلتْها النساء علامة. ظلّت طوال اللّيل تحلم به وبأثوابه وحركاته وفي كلّ حينِ تنتصب الرقبة أمام ناظرها حتى اختفى الرجل وظلّت صورة الرقبة بارزة وطاغية..

   تمر الأيام طويلة عليها فلا تصبر وتخرج بين الدروب هائمة تمشي . تتمشى مزيدا هائمة على وجهها في كلّ مكان وتعبر القرى حتى تصل إلى حيث وصفوا..

     تدخلُ السوق والضجيج الأسبوعي. قالت لها امرأة مجرّبة إنه حمّال، يعمل طوال الوقت ثم يجلس في خيمة، أمامه قلم ودواة، لا يدعو أحدا لمجلسه بل يبدأ الحكي ما أن ينتهي غبار السوق ويوضع شاي أمامه. تَتبّعي حدسك لتجديه، نصحتْها.ولمّا سألَتْها عن إمارة تعرفه بها أشارتْ إلى القفا. قالتْ إنّ قفاه غليظ ورقبته ممتلئة ومدوّرة مثل الحلزون.

  تمشي في السوق،في أنفها الغبار والخُضر والتوابل والماشية. تبحث مليّا ثم تقف وراء رجل غليظ. تقترب من عنقه المتجعّد وتحرّكه ليدور ويواجهها:

  • الحُوسَايْن !!

    نَطَقَتْ اسمَه فاستجاب.هي لم تسأل من قبل عن اسمه، ولا تعرف كيف واتَتها الشجاعة لتخترق مجال رجل غريب لا تعرف له اسما ،لا تعرف كيف جاءتها الكلمة وخرجت من حلقها. غير أنّها الصدفة التي يكون القدر قد رتّبها، كأنّ كلاهما يعرف الحقيقة، استجاب. كأنّهُ كان في انتظارها. لكن هل كان هو الرّجل المطلوب؟ هل كان مهمّا أن يكون المطلوب؟ هل كان مهمّا فقط أن تؤمن هيّ بأنّه الرّجل المقصود..؟

  قال لها الرجل بعد أن عرف حكايتها وهما يخرجان من المقهى حذر العيون التي تأكل الأخضر واليابس:

  – كان عليك أن تَتَثبتي فالحياة سفوح. والمرأة التي دعتْ عليك أعرفها وأعرفُ خُدّامَها، لكن لا عليك، اتبعيني. سأرجّ قريبا أعماقك ب”البندير” وأكتب لك الجداول بالصمغ.أحزّمك كي ترقصي طوال الليل وأجد لك ما يُعينك على الهدوء. سأخْرج السّاكن من جلدك فاصبري ولا تتراجعي…

   لن يدوم ارتعاشك-قال لها-. بـ”الجّاوي” و”الفاسوخ” أم بغيره لن يدوم الساكن فيك.ادخلي الخيمة وسأتبعك قريبا ونُحَضّر ملوك الوقت الذين اعتدوا على هدوئك. سأُملي عليك ما يلزم فعله  كي تحرقي الهواجس. انتظري قليلا أُحضر جلبابا أو سلهاما وأحضر دواتي وصمغي وأوراقي كي  أفهم الحالة. أدخلُ تفاصيل الحالة وأشُوفُ لك. تريدين الحكايات أُعْطيكِ كي تأمني وتطلبي التسليم.قال الحُوسَاين متباهيا سأحكي لك حكايات كثيرة عن نسوة عرفتُ كيف أُخرِجُهن من الزوبعة:

     جاءتني امرأة قبل أيام،تشكو زوجها يضربها فكتبتُ لها الحجاب وأعطيتُها البخور. أطلقَتْ عليه تعازيمها، فارتعش وظل يرتعش حتى مات. أتَريْن ؟ آخذ الساكن منك وأدفنه في القوم الظالمين.وجاءتني امرأة تؤذي الصغار ومن دمائهم تصنع ما يُفرّق بين المرء وزوجه فلم أنصع لها.أخذتُ الساكن من دماء الأطفال ودفنته فيها كي أقتص لهم وهاهي ذي تدور حمقاء بين القرى وتعيش في الطرقات. ستنفضين الساكن قريبا فأعطني اسمك واسم أمّك وكوني هانئة ولا تخافي.خذي هذا الحجاب واتبعي نصائحي ولا تخافي. تعالي على ظهري إلى الصحراء فأنا مثلك أحبّ المشي ولا تخافي.تعالي إلى الخيمة لنرتاح ولا تخافي..

 تعالوا نشرب الشاي ولا تخافوا..

2-السّاكن الثاني:

      هي امرأة تعزف الموسيقى على خشبة بديعة، يصفّق الناس لمهارتها ويتمنّون مصافحة الأنامل البديعة. تصعد خشبة المسرح بخفّة حافيةَ القدمين وتسير كفراشة. ترفع عصا الكمان قليلا وتبدأ العزف ولا تحيّي جمهورها إلا بعد الختم، تقف بمنتصف المكان وتنحني قليلا دون مبالغة فتهتزّ القاعة بالامتنان..

  عزفَتْ طوال حياتها، لكن ما ظلّ يطوّق روحها هو رغبة الخروج؛ مثل زهرة تريد الخروج من التئام أوراقها في شتاء بارد، مثل صوت محبوس وسط الصدر تريد الخروج من أفكارها، مثل خُلاصة منقّحة تحتاج النشر والقراءة. تريد خروجا خالصا نقيا لا يشوبه الكدر بعد كلّ هذه السنوات من الشهرة وإمتاع الناس في مسارح الدنيا وساحاتها. ومع أنّ ملامحها تشي بالنعمة، رغم أنّ ابتسامتها مضيئة،إلا أنّ أمرا ما بداخلها يحبس الانطلاق ويؤلم روحها. لم تزرْ في طفولتها المزارع الكبرى التي تركض الخيول فيها،ولا صعدت هضابا شاسعة وامتد البصر بها حتى أبعد نقطة، ولا صرخت حتى ارتد الصدى حتى تحن إلى الخروج  فما الذي أنبته في دواخلها؟

    هي عازفة الكمان التي ظلت تسير في حياتها هانئة تحصد المال والشهرة والامتنان إلى أن ظهر لها الغول. كانت تعزف حين بدأت المسام تضيق وأصبح أفق الشهرة محبوسا والابتسامات لم تعد تعطيها الطاقة ولا الصور وظلّ كلّ امتنان تراه في العيون يُحرجها ويؤلمها. فجأة ظهر على صفحة وعيها الخروج ممّا هي عليه، ببطء  كان ينمو ثم برز. أحسّت في أمسيّة باختناق مسام الروح فغادرت ولم تحيّ جمهورها بالانحناءة المعتادة. تربّى في داخلها، في غفلة منها، الهروب من المدينة التي تحدّها الأسوار، شيء ما ظلّت تحسّه غير طبيعي في يومها بعد ذلك، لقد اكتشفتْ بأنّها تريد الخروج تماما من جلدها وعالمها الذي لم يعد يمنحها الثقة المعتادة.أصبح اليومي رماديا، أصبحت تريد العالم أبيض،نقيا،لطيفا،تريد حياتها خروجا من الدار والمسرح إلى الفلاة،لا تريد حياة  مغلقة كالتي اجترحتْ لها الحياة وسط بشر كثير.تريد فلاة وكفى ..

     مجدها فصيح، والناس حولها معجبون لكنها ليست مرتاحة، لم تعد تحس الهدوء حين تعزف في الحفلات رغم الامتنان الذي ترى في عيون الناس، أصبحت تحسّ اختناق الكمان..وحين تحمله وتتوسّط الخشبة بقدُّها الممتلئ قليلا وأثوابها البيضاء وقدميها الحافيتين تلحّ عليها الصوّر العنيدة .اعتادت أن تغني في المسارح فيلْتمّ جمهور كثير تفرح لتصفيقه، لكن الوقت تغيّر وأصبح الشرود يطولها وحين تبدأ العزف تكاد الأيادي ترتعش فتحسّ الرعب من سقوط مفاجئ على الخشبة وفضيحة تُمسكها من كلّ جانب..

 لم تعرف سبب مصابها، وكانت تسأل نفسها حين تكون لوحدها، لتهدأ قليلا أو لتنسى:

– ما الذي يحرك القلب غير الموسيقى يا عازفة الكمان؟ اعزفي وستسكن أمورك وقت العزف،بالليل والنهار تعزفين فللحياة وجهٌ واحد هو النغم، ولا سبيل إلا الموسيقى.كنتِ دائما تؤمنين أن الكمان قدرك الذي لا يفنى وفيه طريقك الذي ترتاحين به وتكمّلين به حياتك وموتك..

    لكنّ إقناع النفس لم يعد طريقا، كانت تقودها الليالي أحيانا إلى الأرق، ثم أصبحت تشكو من الجهد والتعب حين تعزف، ومع المسار، غدت الأحلام القليلة التي تأتيها كوابيس..

   لو عادت قليلا إلى الماضي لفهمت، ولولا نعمة النسيان التي أسبغها الخالق على الناس لعادت لها الصوّر الواضحة: كانت قد انتهت يوما من العزف ووقفت لتسلّم على الناس بانحناءة حافية وسط الخشبة حين تقدّم المصورون. وفي لحظة واحدة مثل زخّة من الطلقات انهال الضوء على وجهها الذي أحسّته مكشوفا جدا، على جسدها الذي أحسّته عاريا، على قوامها التي أحسّته ضئيلا ضئيلا لا يُسمن ولا يغني من شهرة. عندها أحسّت العازفة بالضعف والفزع وأحسّت بأنّ صورتها لا تُلائم حقيقتها فهربت من الضوء دون أن تحيي أحدا ودخلت الكواليس مرتجفة خائفة خجولة كمن نُضّ الثوب عن جسدها وسط الخلائق.. ومنذ تلك الليلة، عاشت في رعب شديد لم تُشف منه..

     نصحوها بزيارة أضرحة الصحراء فترددتْ، قال لها بعضهم اذهبي إلى “الصويرة” لترقصي مع “كناوة” أو اذهبي إلى الصحراء لِتَسْكُن َ نَفْسُكِ بين جدران الأضرحة واختاري فلم ترضَ. دراستها وعقلها الذي يحبّ الوضوح يحبسان كل رغبة،و هي لن ترض بكلام جُهّال يبحثون عن جدران بالية يتمسّحون بها.ثم جاءت إلى الصحراء بعد أن أعياها العناد وعاشت أحلك الليالي..

    خرجت من عالمها دون أن تودّع أحدا وسافرت، وصلتْ إلى “الصويرة” بعد رحلة ساعات ورقصت في كلّ زقاق،شربت حتى استوت وجرّبت كل ما يُسكن النفس وهيجانها، ثم انتهى موسم الرقص فعادت الهواجس أقوى فلم يكن من بدّ مما  ليس منه بدّ فاتخذت الصّحراء وجهة..

   وصلتْ باب السوق تقودها أقدام الفضول والخوف والترقّب والرجاء.كل ما يملأ خاطرها مؤلّفاتها الأخيرة.تُراجع في خاطرها الألحان،تضيف وتنقص لاهية عن كلام الدليل كي تطمئن. وصلت القرية وسألت عن الرجل الذي يَشُوفُ فاقتادوها نحوه وأشاروا إليه من بعيد دون أن يقتربوا ثم ضحكوا ملأ أشداقهم حين ابتعدوا فهم لا يصدّقون.سارتْ وفي ذهنها ملامحه وعنقه الغليظة تماما كما بيّن الدليل..

  حين وقفت وراءه بالمقهى، كان يحكي حكاية.سمع اسمه فالتفتَ:

-الحُوساين !

  عبرا الطرق التي صاغتها خيام الباعة وخرجا.قال لها بعد أن تكلّما إنّ روحها دامية، تعزف على طبول الشوك فانبهرت وبكت. قال لها إنّك تراوغين مسامك المتوهجة بشمس الأزل التي أحرقت قبلك، تحبين الناس وطاقة الحب لديك دوّت، لكن احذري  فالساكن يقتص من الخلايا..

    وضع البخور والطلاسم فرأى مكانها ومسرحها؛ رآها امرأةً تسكن في مدينة بعيدة ولا ترتاح، لم يقل إنّ روحها تُشبه روح امرأة من الصحراء جاءت تبحث عن نفض الساكن تحتها بعد أن أعيتها الحيّل وأنّ عجوزا دعتْ عليها..

    نصحها الحُوسَايْن بالعشب الأخضر و الحليب وماء الزّهر وأسمعها النقر على الطبل وسط نسوة كنّ يرقصن حتى يسقطن في دائرة الحضرة،ذكّرها بشروط أهل المكان التي أهمّها كتمان السّر..نصحها بترك الأمر بين يدي صاحب الأمر وأن تتّبع الأسباب كي تصل دون مجهود وسيكون الله معها..قال إنّ سخونة الصحراء ستُحرق الأرواح الشريرة فآمنت وصدّقت..

    سكنت القرية لأيام وجرّبت ما نصحها به، لكن في ليلة، عاودها الأرق فغادرت المكان بعد أن بكت. فهمت سبب ما يُرعشها ويضيّق مسامها عند العزف.. جاءها هاتف يخبرها أنّ قدرها سيظل يحكمها وأن لا مناص. في الصباح،غادرت ولم تشأ أن تزيد في الأمر بعد أن فهمت؛ قالت إنّها آمنت بقدرها إذ عرفت وهذا يكفي. فهمت أنّ ما يضيّق أنفاسها هو أنّها تسير في مسار واحد وأنّ ما سيغيّر مسارها هو ولادة جديدة..أن تترك العزف وتبدأ حياة أخرى بعيدا عن كلّ فنّ يأكل من داخلها..

 اعترف الحُوسَاين في السوق بأنّ قرارها فاجأه، ولمّا استفسر الناس منه قام من مكانه وسألهم:

– هل أنتم على وضوء؟ هل أنتم على وضوء كي تسألوا في ما لا يعنيكم..؟

ولمّا صمتوا خرج من المقهى وهو يقول دون داع أو تفسير، وكان غاضبا لأول مرة:

-أنا مَاشِي سُوقِي مَاشِي سُوقي.

بلاغةُ الُحُوساين:

     صهد خفيف بعد يوم عمل شاق في السوق. نعرف أن “الحُوساين” سيجلس قريبا على حصير المقهى القصبي ليحكي..حمّال السوق الذي يمتلك كنزا من الحكايات سيجيء قريبا ويتربّع على الحصير ولا يبدأ الكلام إلا بعد أن يشرب الشاي. يحكي بضمير الغائب،الكثير عن مغامراته مع نسوة القرى الملتفة حول النهر ونسوة المدن البعيدة اللواتي مللن أسباب الحياة ولم تعد لهنّ من طاقة للعادي..أما نحن، أبناء القرية،فنعيد ترتيب حكاياته في كلّ مكان وننسبها إلى أنفسنا، كي نتباهى بها ونظفر بدهشة العيون..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.