الرئيسية | سرديات | الرجل الذي فقد وجهه | عبد الهادي الفحيلي
الفحيلي

الرجل الذي فقد وجهه | عبد الهادي الفحيلي

عبد الهادي الفحيلي (المغرب):

 

 أفيق باكرا. أفتح عيني. أنظر إلى الساعة. أنتفض في الفراش كمن لسعته عقرب وأهرول إلى الحمام لأغتسل. أنظر إلى المرآة. أتذكر ألا شيء ينتظرني. لا عمل. أرتب الأشياء في رأسي عبثا لأعثر على سبب يجعلني أغادر بيتي في هذه الساعة المبكرة من الصباح. لا أعثر على شيء. أحاول الرجوع إلى النوم بلا طائل. أعصر رأسي. أفترض موعدا مع صديق في الثامنة. أحاول أن أضحك: لا أصدقاء لي، ولا أحد يضرب موعدا في مقهى مع الثامنة. هذه الثامنة لمن يذهبون إلى أعمالهم مكرهين. يتمنون لو ينامون نصف ساعة أخرى. سأخرج في التاسعة وأرى. أغادر بيتي وأنزل الدرج. يتمدد الوقت حولي ويتثاءب. تبتلعني فجوة عميقة. أنقاد لها خفيفا مستسلما. صار الوقت ثقبا هائلا لا قعر له.

  كان الشارع فارغا تماما. أسير وحدي. أقصد مقهى اعتدت الجلوس مساء في باحتها الخارجية وأحتسي فنجان قهوة سوداء. لا أدخن. كانت المقهى فارغة حتى من النادل والبارمان. جلست في مكاني المعتاد مستغربا. لا أحد. أنظر إلى ساعتي فأجدها قد غادرت التاسعة بكثير. ترى، أين راح الآخرون؟ حتى أصحاب العربات المدفوعة. المتسولون الذين يبكرون. الكلاب والقطط. الحوانيت مفتوحة وفارغة من أصحابها. وحدي أجلس على المقعد أبحلق. طالما لعنت الضجيج والناس، وتمنيت لو يأتي يوم لا أجد فيه أحدا يخطر أمامي. كرهت الزحام. نتزاحم على كل شيء، حتى على الهواء. ربما لن نجد يوما شيئا نتنفسه. فرحت. هل تحققت أمنيتي فعلا؟ كم من الأشياء تمنيت لكنها لم تتحقق. أنظر إلى صورتي في المرآة وأقول: “هذا الوجه وهذه القامة يستحقان عملا كبيرا وامرأة فاتنة”.

  طرقت معظم الأبواب متأبطا أوراقي التي تختصر حياة كاملة من الدراسة والتفوق. طويت أحلامي ورميتها في القمامة. انتهيت في مكتب صغير للتأمينات. لم أنته في حضن أية امرأة. اكتريت شقة صغيرة بعيدا عن عائلتي. أذهب إلى العمل صباحا وأعود مساء. لا أكلم أحدا حتى زملائي في العمل إلا فيما يخص ملفا أو زبونا. أتهادى في الشارع وفي الحي متأنقا كموظف كبير. وجهي كأنما قُدَّ من حديد لا يجد مثيرا للضحك. لماذا يضحك هؤلاء التافهون؟ لماذا يضحك زملائي لأتفه الأسباب والكلمات؟ يقف أمامك متسول قذر ويبادرك بابتسامة كي تلين. تعطيه فيضحك. تشتري من خضار فيضحك. تؤدي ثمن قهوتك فيضحك النادل. الأغبياء.. لو لم يكن الضحك لكان العالم أجمل. على الأقل لن يكون هناك بكاء. الأشياء تستدعي ضدها.

  انتظرت كثيرا. لم يتحرك شيء. اقتنعت أن أمنيتي تحققت. خطرت لي تلك الفكرة التي طالما حبستها في قمقم محكم الإغلاق ودفنتها عميقا في أحشائي. ربما هذه فرصة لتحقيق ولو جزء بسيط مما كان ينتابني وأنا أسير محاولا ألا يصدر عني ما يزعزع وقاري. قمت من مكاني وصرخت بأعلى صوتي حتى ارتد إلي متماوجا. أدخل الحوانيت وآخذ كل ما أريد. آكل. أشرب. أسقط الأشياء من على الرفوف وأطؤها بحذائي اللامع. أعبئ رصيد هاتفي الذي لا يرن إلا إذا اتصل بي رئيس المكتب. أفتح صناديق النقود وأملأ جيوبي. أخرج إلى الشارع وأتبول. أتعرى وأركض كما ولدتني أمي. ألعب بشيئي. أضحك. أتمرغ على الإسفلت. أطلق غازاتي وأتشممها. تلَبّسَني فرح طفوليّ أعتمَتْ أوصاله وصدئت. أنا ملك المكان والوقت. كل شيء لي. طردت السؤال والحيرة من غياب الكل ومما يشبه الموت هنا. لكن ماذا عني؟ هل أنا الحي الوحيد؟ الموجود الوحيد؟ هل ماتوا أم غابوا وسيعودون؟ أين ذهبوا؟ لماذا لم يغلقوا محلاتهم قبل أن يذهبوا؟ ألا يمكن أن أكون غائبا مثلهم، وما يحصل الآن لا يعدو كونه مجرد ظل كان يتوارى في أعماقي وطفح بعدما تعب من الانتظار؟

  كانت الفناجين موضوعة على الموائد الصغيرة في المقهى. كانوا هنا وذهبوا. هل يمكن أن يكون في الأمر خدعة ما؟ يتوارون خلف النوافذ والأبواب ويراقبونني؟ يضحكون ملء أفواههم؟ يسخرون من شيئي الصغير؟ من منظر مؤخرتي المزغبة؟ ينزعون صورتي من برواز الوقار الذي عُرفت به بينهم؟ تطلعت إلى النوافذ فوجدتها مشرعة. الأبواب. جريت أبحث في كل الأمكنة التي خمنتُ أنها تصلح للاختباء. أدور بعيني في كل الجهات. أبحث عن ظل ما. صوت ما. لا شيء. لبست ثيابي وقلبي يتململ ويؤلمني. ألبس وأتلفت موقنا أن هناك من يراقبني. لا ينشغلون بأنفسهم. أعرف أنني أسبب لهم القلق والحيرة. سأصير أضحوكة. سيسخر مني الأطفال الذين أمر بهم يلعبون. لن يتوقفوا إجلالا لي كما كانوا يفعلون. سيسخر مني النادل. كان يحضر لي القهوة والماء والجرائد ويمعن في الانحناء. أضع ساقا على ساق ولا أكلمه. لن يأتيني بشيء، سيقف ورائي ويشدني من ثيابي ويدفعني أمامه ويركل مؤخرتي ويصرخ في وجهي: “لا تأت إلى هذه المقهى مستقبلا، لقد انكشفت أيها التافه”. ينفجر ضاحكا. يقهقه الآخرون. يقهقه صاحب الدكان المقابل للمقهى. الأطفال. بائع السجائر بالتقسيط المرابض دائما في طرف المقهى. بائع السمك المتجول. يقهقه المتسول الإفريقي الذي يطرده النادل كلما أزعج الزبناء. يقهقه ويضرب على كفه كأنهما صديقان ويجلس في مكاني. يمسح النادل المائدة ويأتيه بقهوة مخلوطة بالحليب. يضع ساقا على ساق ويفتح جريدة بالفرنسية ويرشف من كأسه بصوت مسموع حتى تهتز شفتاه السمينتان. أنكمش. أحني رأسي ووجهي يقطر حمرة قانية وأغادر المكان والقهقهات تضج وتملأ كل ثقب حولي. أفتح باب العمارة وأصادف جيراني على الدرج فينفجرون في قهقهات صاخبة. حتى عاملة التنظيف. جارتي المملوءة لحما، تطل برأسها من باب شقتها. تستر عني جسدها الهائل الذي طالما وقفت به أمام الباب كاملا ضاجا بالنار، وعيناها تستجديان أعواد ثقابي فيرتجف قلبي وترتعد ركبتاي ولا ألتفت لها. تقهقه وتغلق الباب حتى يكاد ينخلع. أدخل شقتي المقابلة لشقتها. أغلق علي بابي وأدفن  وجهي في الكنبة الموضوعة في قلب البهو وأبكي. أبكي وأنتحب مثلما انتحبت يوم أفرغني رئيسي في العمل من دمي. شدني من ربطة عنقي حتى ضحك زميلاي. ضحكت زميلتي التي كانت تنظر إلي دائما باحتقار وأنا أرميها بنظرات خجلى. كانت متزوجة وتضع خاتما. يدغدغها الزميلان ورئيس المكتب. يلامسون ثمارها فتضحك وتطلق كلاما عاريا. يومها صرت بالونا فارغا من الهواء. انسللت إلى حمام المكتب وبكيت. نظرت إلى المرآة وسويت ربطة عنقي وياقة قميصي وسترتي وعدت إلى العمل منطفئا. يضحك زميلاي وزميلتي ويتغامزون. أحمل جسدي وأغادر ولا أعود أبدا.

  لم ألازم بيتي إلا يومين. استمررت في القيام باكرا وحلق وجهي. أتأنق. أخرج إلى الشارع كأنني ذاهب إلى العمل. أطوف في شوارع المدينة. أعرض عليها وجهي بعدما خبأته طويلا في طريق واحدة تربط بين بيتي والمكتب والمقهى. أرتاد محلات وأسواقا. أشتري أشياء لا قيمة لها بما ادخرته. أتناول فطوري وغذائي خارج البيت. أجلس في مقهاي المعتادة في وقتي المحدد. ينحني لي النادل. أعود إلى البيت وأتحاشى النظر إلى جارتي التي تترصدني بلحمها الملتهب. أغلق علي الباب وأغرق في شؤوني الخاصة الرتيبة.

  كأني عريان. عريان ومكشوف. كأن العيون مبثوتة حولي في كل الجهات تأكل وجهي. تنزع الثياب عن جسدي رغم أني أحكمت لبسها. أتلفت حوالي مثل هارب من كلب مسعور. تضغط الغمزات والقهقهات علي. تهزأ بي. متيقنا من ذلك سرت في الشارع. أسرع الخطى إلى بيتي. تطول المسافة كأنها لا تريد أن تنتهي. سرت دهرا. دمي ووجهي يغادرانني قطرة قطرة. العمارة غارقة في صمت مريب. أسترق السمع بكل تركيز. لا شيء. أدخل شقتي وأغلق الباب وأرتمي على الكنبة وأخفي وجهي وأبدأ النشيج. رأسي يحلف لي بأني انكشفت. انكشفت مثلما حدث لي في المكتب يوم ضبطتني الزميلة أتملى صورتها على شاشة هاتفي. كنت قد صورتها في غفلة منها وخبأتها عندي. تجرأت وفعلت ذلك. أنظر إليها في خلواتي. في ذلك اليوم كان المكتب خاليا من الزبناء والوقت يتمطط في كسل. أخذتها من ذاكرة الهاتف ونشرتها أمامي. تهاديت في منعرجاتها. قطفت ثمراتها اليانعة. كانت تمر ورائي دون أن أنتبه. كنا نشغل نفس القاعة وكان الرئيس يشغل قاعة مستقلة. رأت صورتها بتنورة ضيقة قصيرة وقميص يود لو ينشق عن صدرها العظيم. ضحكة متراقصة. بجانبها رئيسنا غارق في ضحكة مماثلة بعد شيء أسره لها في أذنها. صورتها وحدها ولم يبد من الرئيس سوى يده التي كانت فوق كتفها الأيسر. طردني صوتها الهادر من نشوتي. قالت لي أني لست رجلا. تزلزلتُ. جرَت نحو مكتب الرئيس. ثور هائج اقتحم القاعة. جعلني لسانه حشرة لا تراها العين المجردة. شدني من ربطة عنقي وجرجرني. ضحكَتْ وضحك زميلاي. أمرني بأن أسلمه هاتفي. تملى في الصورة ومسحها وأخرج بطاقة الذاكرة منه وكسرها ثم قذفه في وجهي وقال: “سأراعي أنك كنت أول من عمل معي أيها المكبوت ولن أطردك”. انصرف إلى مكتبه وحلقي يغص بحجرة كبيرة. مسحَتْ قامتي التي وقلبت شفتها السفلى وتبعته تتمايل في غرور. تناهت إلي قهقهاتهما. التهب وجهي. صار دخانا. بكيت في الحمام. بكيت في البيت، وهأنذا الآن أبكي. هل أنتهي هذه المرة أيضا كما انتهيت في العمل؟ ليس من حقي إذن أن أفعل ما أريد. لماذا يفعل الآخرون ما يريدون؟

  ذهبت إلى الحمام واغتسلت. نظرت إلى المرآة. وجهي غارق وسط ضباب لا أعرف من أين أتى. مسحت المرآة. لم ينقشع الضباب. لم أبال كثيرا. تَفَلْتُ عليها ومسحت وجهي بالفوطة. رجعت إلى الكنبة وتمددت أفكر في حالي ومصيري في الحي بعد الذي حصل. كيف سأرفع وجهي وأسير نافخا صدري بعدما جرى؟ لو أبدل وجهي وشكلي؟ ألبس قناعا؟ أغير سكني؟ لم أجرؤ على الخروج. حتى ذلك الشيطان الصغير الذي يتخفى في أشد عتمات رأسي لم يفلح في إقناعي بأن ما جرى مجرد وهم، وأن مخيلتي مريضة تحتاج لطبيب.

    أسدلت الستائر فغرق البيت في ظلام كثيف ونمت. رأيت أنني أسير في الشارع مطأطِئ الرأس وقامتي تقلصت إلى النصف. لا أضع ربطة عنق وحذائي يعلوه الغبار. كان الناس ينظرون إلي في دهشة. يهربون كلما اقتربت منهم.  يتبعني الأطفال.  لا يجرؤون على الاقتراب مني. يتقدمون أمامي ويتطلعون إلى وجهي. ينظرون إلى بعضهم ويهمهمون. يقلبون شفاههم وينصرفون راكضين. تقاذفتني أسئلة كثيرة. لم أفهم شيئا. دخلت إلى المقهى وجلست قرب جدار من زجاج صقيل. حضر النادل. طلبت قهوة سوداء. أشعلت سيجارة. نظر إلي فاغرا فاه وتسمر. نظرت إليه. لم يرني أدخن من قبل. تحرَّك. تعثر بمائدة فسقط. كان كل من في المقهى ينظرون. يتقافز الخوف والحيرة على وجوههم. تمتم بعضهم بكلمات غير مفهومة وغادروا. أنظر إليهم مستغربا والدخان. حانت مني التفاتة إلى الجدار الزجاجي بجانبي. اتسعت عيناي. صار دمي طبقة من جليد. أبصرت السيجارة معلقة في الفضاء. لم أبصر وجهي. ثقب كبير بحجمه…

  انتفضت من نومي مذعورا وهرولت إلى الحمام. أنرت المصباح وسبقتني عيناي إلى المرآة. أطلقت صرخة كبيرة. انقشع الضباب. بقعة سوداء بحجم وجهي سكنت المرآة…

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.