الرئيسية | سرديات | الخوف | هشام فنكاشي – المغرب

الخوف | هشام فنكاشي – المغرب

هشام فنكاشي

يحكي لي أبي عن “الهيشة” التي تأكل الأطفال الصغار، وعن الغول الذي يقطن الجبال…كانت شخصيات حكاياته ترافقني في منامي فتصبح بطلات كوابيسي  تصارعني ولا تتركني حتى أتبول في فراشي… تقول لي أمي “انقض عليك حمار الليل”. فأصبحت أكره وأخاف من الحمير ومن جبروتها وتسلطها علي كل ليلة. عندما كنا  نذهب للقرية عند جدي خلال العطلة الصيفية، كان يكمل المهمة بحكاياته الأكثر خيالا ورعبا … لكنها تشترك مع حكايات أبي في شخصياتها المخيفة… تتراقص الأشباح في ظلمة الليل داخل قبة جدي.

أول يوم التحقت به للمدرسة رافقني والدي، وقال لمعلمي وصيته التي كان يرددها دائما مع إنتقالي لكل مستوى جديد: ” أنت إذبح وأنا أسلخ”.

المدرس لا يدرس إلا ببذاغوجية التخويف…الخطأ ذنب لا يغتفر… اللعب لا ينتج رجال أشداء… والأناشيد و الموسيقى تخنث الطباع وتقتل الخشونة… وجهه صارم الملامح والقسمات، نظراته حادة  تلتهم براءتنا، لم تكن له ابتسامة قط… إذا غضب وسرعان ما يغضب، ينقض عليك بأصابعه الغليظة، أو بعصاه التي كان يحبها ويعزها كثيرا. الامتحانات المدرسية، شبح مخيف يزداد رعبا، كلما اقترب موعد الامتحان.

خرجت للعب مع أقراني في الحي كأي طفل يحب اللعب …قانون الذكور هو قانون الغابة، الغلبة للأقوى قانون متعارف عليه بالفطرة …إذا لم تكن ذا بنية قوية أو لم يكن لديك إخوة ذكور أكبر منك، فإنك تكون الحلقة الأضعف في اللعبة…”الظلم” أو الألعاب التي تقوم على أساس “الظلم”، هي المفضلة لدى الذكور، فتجدهم أكثر سعادة و تشويقا عندما تنشب معركة بين طفلين، و بالطبع بتخطيط مسبق من الجماعة، وتصبح اللعبة أكثر إثارة وحماسا إذا هزم أحدهم شر هزيمة.

ذات يوم قال لي والدي: “عليك أن تبدأ الصلاة فالرسول صلعم قال: “علموهم عند سبعة واضربوهم عند عشرة”، لازالت بحوزتك سنة واحدة، وسأطبق الشق الثاني من الحديث”، مع أنه لم يطبق الشق الأول منه. بدأت الصلاة خوفا من عصا والدي، وخوفا أن يرميني الله في ناره الكبيرة المليئة بالثعابين كما أخبرني والدي. أول يوم وجلت فيه المسجد كان يوم جمعة كما حدده والدي. ما إن ولجنا المسجد حتى بدأت أقلده في حركاته…رفع الآذان ثلاث مرات، وبعدها  اعتلى خطيب الجمعة المنبر، وكان موضوع الخطبة “عذاب القبر”، أخبرنا أن أول ليلة يلج فيها الانسان القبر سيستقبله ملكان شديدان غليظان على هيئة ثعبانيين كريهي المنظر  يسمون ناكر ومنكر وسيسألونه عن… أول لقائي ومعرفتي بالله، مر ببوابة تعريف الخطيب. أخبرنا عن عقاب الله وعن النار السوداء التي أعدها للضالين وعن خزنة جهنم … كان الإمام الجمعة غاضبا ويتكلم بقسمات وجه حاقدة، حتى حسبت أن ناكر و منكر هما من يرسلانه كل يوم جمعة ليخبرنا بقرب موعد اللقاء… زارني ناكر ومنكر في منامي ليلتها، وزارتني صورة الله التي رسمتها مخيلتي الكبيرة و الفارغة بريشة الإمام.

كانت أمي دائما تقول لي: “الزمان غدار” وتصفه بعدم الأمان، وكعادتها في الكلام دائما تستشهد بمثل شعبي وذلك لإضفاء المصداقية على حديثها فتضيف: “من اتخذ الزمان لحافا عراه”. فأجدني  أرسم الزمان في مخيلتي كرجل عجوز ماكر، يعرف جميع الألاعيب ليوقع بك بسهولة في شباكه الملتوية. حتى في لحظات سعادتي وتصالحي مع ذاتي ومع الحياة، كنت دائما أفسرها بأنها فخ من فخاخ الزمان الكثيرة، نصبها لي ليوقع بي في دهاليزه العميقة.

 لفظتني السنين من عالم الطفولة المرعب إلى عالم الرجال، وعندما كانت أمي تفتح موضوع الزواج،  تبدأ كلامها وكعادتها بإحدى الأمثال: “يهزمك الزمان ولا تهزمك المرأة”. أحدث نفسي قائلا: “إذن المرأة أمكر من ذلك الرجل العجوز، وأكثر منه حيلة. وتضيف: “اليوم الأول يموت القط”، وهو مثل يضرب للدلالة على أن حسم الأمور يكون في البداية. خضت تجربة أو بالأحرى حرب الزواج. أنا وزوجتي كلانا يريد قتل القط في اليوم الأول، السنوات تمر… القط لم يمت، لكننا في خضم صراعنا، قتلنا كل ود ورحمة وألفة. القط يكبر بيننا يوما بعد يوم، و المشاعر الجميلة تضمئل وتختفي.

  أصبح الخوف يسكنني. أخاف أن لا أحصل على وظيفة، وإن حصلت عليها أن لا أتزوج، وإن تزوجت أن تنتصر علي  زوجتي في حرب الزواج، و إن حسمت المعركة لصالحي أن لا أنجب، وإن أنجبت أن لا يكون أطفالي في صحة جيدة، و إن كانوا كذلك أن لا يكونوا صالحين… وإن أن …وإن أن …وإن أن …وكان خوفي الكبير الذي يلتهم كل مخاوفي هو اقترابي من لقاء ناكر ومنكر.  أخاف من كل شيء و من أي شيء، أخاف من الشمس في إشراقتها و من النسيم في مداعبته،  الخوف يملأ رئتي، أشهق خوفا وأزفر خوفا.

وأنا أعيش آخر أيامي ممدد على فراش الموت زارني الخوف، نظر إلي  بابتسامة ماكرة، أحسست أن شخصيته جبانة وأنا من قويتها بهواجسي وضعفي، خاطبني قائلا: “سأعرض عليك يا صديقي الوفي، بعض الصور عربون محبة لإخلاصك الشديد لي طوال حياتك”.

أنظر يا صديقي هذه صورة بحر، وهذا الرجل الواقف على شاطئه هو أنت. هناك كنت واقفا ترتعش من ركوب أمواجه، وضع أصبعه في قلب البحر وأخرج لؤلؤة، وقال بخبث: “هنا كانت لؤلؤتك”. وفي رمشة عين استبدل البحر بجبل وبضحكة ساخرة قال: “هذا سفح الجبل قضيت كل سنوات عمرك به، وعلى قمة الجبل كان القدر ينتظرنك ليسلمك جائزتك”. توسلت إليه أن يتوقف لكنه قاطعني قائلا: ” ليس الآن، فلازال هناك صديق يريد أن يتعرف عليك،  أقدم لك صديقك المجهول”. كان رجلا يلبس جلبابا أبيض بلحية بيضاء، تحس بالألفة و المحبة تجاهه من أول نظرة له. لم يكن كما كنت أتصوره ذلك الرجل الأسود الذي يلبس سلهاما أسودا وكل ما فيه يثير الرعب و الخوف. خاطبني بنبرة تحمل كل معاني الحسرة: “أنا المجهول، الذي انتظرتك طويلا أن تسبر أغواري”. سألته ودموع الحسرة الساخنة الكاوية تنهمر على خدي: “ما تلك التي تحملها بيدك؟”. أجاب بصوته الشجي الدافئ: “هذه جلباب تجربتك الفريدة، انتظرتك طويلا لأتقاسمها معك وألبسك إياها، خطتها على مقاسك ولا تصلح لغيرك”.

  سرق الخوف أحلامي خنقها قبل أن تولد كطفل ولد ميتا،  طمس بصمتي في مقبرة بصماته الكبيرة… وأنا أقترب من نهايتي لم يمنع الخوف الموت عني، لكنه منع الحياة عني. يقول جاك كانفيلد: ” كل ما تريده هو على الجانب الآخر من الخوف”. مر العمر دون أن أرى ذاك الجانب الآخر.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.