الرئيسية | فكر ونقد | ” الحي الخطير” أو رواية الحُثالة | سعيد الفلاق

” الحي الخطير” أو رواية الحُثالة | سعيد الفلاق

سعيد الفلاق

 

تأتي رواية “الحي الخطير” للكاتب المغربي محمد بنميلود ضمن مشروع طموح يطلق عليه “برنامج آفاق لكتابة الرواية” يهدف إلى دعم المواهب الروائية تكوينا ونشرا. وقد صدرت الرواية، التي تقع في حوالي مائة وتسعين صفحة من القطع المتوسط، عن دار الساقي سنة 2017م.

يعدّ عنوان الرواية أول مدخل لقراءة النص، باعتباره تعاقدا ضمنيا بين الكاتب والقارئ، فصفة “الخطير” تستفزّ الذّهن، تجعله يقظا، مقبلا على اكتشاف خُطورة الحي. فهل هو حيّ خَطر فعلا؟ أليست مجرد لعبة روائية سردية لجلب القراء؟ ما الذي يميز “حي” بنميلود عن الأحياء الأخرى؟ هل لهذا الحي شبيه ومثيل في مناطق أخرى؟

يُصدِّر الكاتب عمله بمقولة كافكا “الخروج من البيت مغامرة خطيرة”، لكنْ ذعنا نقلب الجملة لتصير: “إن قراءة الرواية مغامرة خطيرة” ما دمنا سنلج حيّا خطيرا، فينبغي علينا أن نتسلّح كي لا نتحول إلى ضحايا، يدعونا كافكا إلى أن نظل في منازلنا مخافة الخطر، لكن لنكون شجعانا، ولندخل “الحي الخطير” من بابه الواسع بدون سكّين حاد ضخم، وبصدور عارية.

2

 تدور الرواية حول حكاية كبرى تتأطر ضمنها جملة من القصص الصغرى التي تتكامل مع الحكاية الأولى،  وتُحكى كلّها بواسطة سارد واحد هو البطل مراد، السّجين المجرم، ابن الحي الخطير. ومن السّجن يرجع البطل بذاكرته إلى استعادة علاقته بالكتب الممنوعة التي تركها خاله؛ كتب الشّيوعيين الحاقدة وبياناتهم وكيف أثّرت فيه، وعلاقته بالمُجرميْن رشيد وعبد الرحمن، فضلا عن الحروب بين العصابات داخل الحي (عصابة الشّعبة، عائلة صحراوة، العربي الأعور…)، كما تثير الرواية، إضافة إلى الجريمة، كل ما يتعلق بالعُهر، فجلّ أبناء الحيّ لا يعرفون أصلهم بالضبط، نظرا لاحتراف نساء الحي ورجاله الدّعارة، من ثم كثُرت الشكوك حول نسب البطل الذي خلص بعد صراع مرير إلى أن أمه “منة” كانت بدورها تتاجر بجسدها. لتنتهي أحداث الرواية بالعودة إلى السّجن، إلى نقطة البداية، حيث يفكر البطل في الهرب، غير أن أحلامه ستظل بعيدة عن الواقع الفعلي، لأنها تفتقد للفعالية وللتخطيط المنظم، ومع ذلك سيظل مراد متشبثا بالهرب “أنا حيّ فقط لأهرب. إنها مسألة وقت”.

يمكن النظر إلى بناء رواية “الحي الخطير من خلال مستويين اثنين:

ـ الأول يقدم لنا رؤية/صورة عامة عن أحداث الرواية، إلى درجة نذهب إلى أن “بنميلود” قد أنْهَى الرّواية في الصفحة (44)، لأنه جعلنا نتعرّف على النهاية مُسبقا؛ نعرف أن البطل سُجن، وأن خاله اختُطف وقتل، وأن عبد الرحمن قتلته الشرطة، وصديقه رشيد قتلته عصابة الشّعبة.

ـ الثاني يبدأ من “الطريق إلى عكراش”، حيث يعيد تفكيك وتوسيع ما تم التلميح له في المستوى الأول، يرجع من جديد إلى “الحيّ الخطير” واصفا بدقة المعارك بين العصابات، واضعا اليد على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يتخبط فيها الحي عبر سرد حكايات لشخصيات داخل الحي (عائلة صحراوة، العربي الأعور، أم البطل … إلخ)، بغية الكشف عن ما يميز الحيّ من خطورة. (قتل، اغتصاب، حرق …)

تبدو الرواية بهذا المعنى عبارة عن سيرة ذاتية لبطل مجرم، نبتَ في حيّ لا رحمة فيه، فكان نتاجا لهذا الحي المتّسخ بالدم والفظاعات. سيرة تنبني أساسا على أحداث شخصية في البداية، قبل أن تنفتح على محيطها القريب. من ثمة فالرواية لا تسعى إلى أن تترفع عن الواقع بقدر ما تهدف إلى تعريته، والكشف عنه. واقع مريض، ممعن في الإسفاف. وهذا ينعكس على لغة “بنميلود”، فهي ليست لغة جزلة، قوية تحتفي بالعبارة، بل هي لغة عارية، ملتصقة بأفواه أصحابها، لا تنطق إلا بما ينطقون به، ولا تفكر إلا كما يفكرون. هكذا، نجده لا يتردد في توظيف الكلمات الهابطة والنابية والناقمة. فضلا عن وصف المشاهد الجنسية، وكل ما يرتبط بما هو شهوي في النفس البشرية.

رواية “الحي الخطير” هي رواية الحُثالة، تلك الفئة الملقاة على الهامش التي نعرفها جيدا، لكننا لا نكتب عنها، نخاف أن نقترب منها، نتوجس من سواطيرها ومن نفوسها المريضة. و”بنميلود” يعمد إلى الكشف عنها، إلى التوغل في جرائمها وقساوة قلوبها. حيّ من الحُثالة والقوادين والمفسدين وآكلي لحوم البشر لا رحمة ترجى منهم، وحتى حين يسعون إلى الرّقي لا يفكرون إلا في الجريمة، أو في بيع المخدرات، أو في التّجارة بلحومهم. رواية التناقضات الصامتة، الهامش والمسكوت عنه، وعليه، فهي تعبّر عنه بنفس حانقة، متمردة، لا تداهن، تنظر إلى الجميع بأنهم مجرد عصابات ليس إلا؛ عصابة تشتغل لحساب الدولة (الشرطة والمقدم…)، وعصابة تشتغل لنفسها (عصابة الشعبة، عصابة البطل، العربي الأعور…). يتحول الجميع إذن بقدرة قادر إلى “حثالة”.. “وقد بتّ الآن أعتقد أكثر أن كل البشر دون استثناء حثالة، ليس أنا فقط ورشيد وعبد الرحمن وعصابة صحراوة وعصابة الشعبة وباقي عصابة حيّنا… البشر مجرد حثالة، هذه هي الحقيقة” (ص180ـ181)

من الضروري أن نشير إلى أن محاولة قراءة رواية “الحي الخطير” ينبغي لها أن تخضع لنسق داخلي يتحكم فيه “الحيّ” نفسه، فكل محاولة لإسقاط ما هو خارجي/ أخلاقي على النص ستبوء بالفشل، لأننا لا يمكن أن نتصور أن البطل المجرم ملاك، لأنه نتيجة لواقع مكهرب، يئن بالفظاعات، ويلتصق بالشّواقير والسّواطير والقتل. خطاب السارد مراد هو خطاب الحيّ، والرواية إذ تتقيد بهذا تنبئ بتوجه جديد ينبذ المركز، ويعلي من قيمة المنسي والهامشي. (الحديث عن الجريمة في الأحياء المنبوذة)، لكنها قد تفهم بأنها تمجّد الجريمة وتبّررها، في حين تتناسى ما قد يتضمنه الحي من صفات إيجابية. ولعلّ هذا ما قد يُعاب على “بنميلود”، لذا، يجب قراءة الرواية بحساسية أخرى أكثر وعيا وانفتاحا، فنحن في حيّ خطير، كل شخصياته، وتفاصيله خَطرة، لأنك قد تجد نفسك يوما إما متفحما في كوخك، أو مَرميا في الوادي، أو مقتولا في الغابة، أما إذا كان يد القدر بجانبك فستجد نفسك في السّجن مَحميا بالجدران الأربعة، لكي تجلس على مهلك، وتفكّر في تأليف رواية، هي حتما رواية “الحيّ الخطير”.

 

 طالب باحث ـ المغرب

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.