الرئيسية | فكر ونقد | التصَوّف بَين المُمَارسَة الفردَانيّة والاجتمَاعِيّة | رشيد العالم

التصَوّف بَين المُمَارسَة الفردَانيّة والاجتمَاعِيّة | رشيد العالم

رشيـد العالــم/ كاتب وباحث -فرنسا.

 

التصَوُّف كمَا تعمَّق في وَضع لبنـَاتِه الأولـَى من العُلمَاء الأقدمِين والمُحدثِين، قـَائمٌ على البُعد التـَّزكـَوي الرُّوحِي الذِي يرتقِي بالإنسَان إلى أسمَى وأرقـَى مَعرفـَةٍ عند الصُّوفِيين وهِيَ مَعرفـَة الله، (وَمَا قدَرُوا الله حَقَّ قدرهِ) سورة الزمر الآية 67.

 قـَال السَّمَرقنديُّ فِي تفسير هَذِهِ الآية : أي مَا عَرفـُوا الله حَقَّ مَعرفتِه.

فالمَعرفـَة الربَّانيَة تمَكنُ قلبَ السَّالِك من الإجابَة عَن كثير من الأسئلة الفلسَفيَّة والوُجُوديّة والرُّوحيّة، كمَا تدفعُهُ إلى الانطلاق من بَوتقـَة مِن الذات، مِن تناقضَاتِهَا وجَدليَّتهَا وتغيرَاتِهَا إلى ذات الآخر، بهَدَفِ مَعرفـَة الرَّابطـَة المعنوية والوَشيجَة الإنسانية التِي تجعَلُ مِن الآخر مُرَادِفـًا للأنـَا وتجعَلُ مِن الأنـَا والآخَر مُرَادفـًا للمُجتمَع، هَذِه المعرفة التِي تنبثقُ أفقيًّا لتشمَلَ الوُجُودَ والبَيْئـَة والمُجتمَعَ ثمّ تتعَالى عَمُوديًّا مُتسَاميَة نحوَ الله سُبحَانه.

فالتصَوُّف فِي جَوهَره، ليْسَ انزوَاءً فِي شَرنقـَة الذات كمَا يكرِّس ذلك مَنهجُ كـَثير مِن المُرشِدين الرُّوحِيّين، بلَ هتكـًا لسَريرَتهَا واخترَاقـًا لأسوارهَا وفرَارًا مِن قبضَتِهَا (إنَّ النـَّفْس لأمَّارَة بالسُّوء إلا مَا رحِمَ رَبِّي) حَتى تصيرَ كينـُونـَة لا تحُدُّهَا العَادَاتُ وَ لا المَظـَاهِر، ولذلك فمَفهُوم التصَوُّف بَعيدًا عَن الفهم الدِّينِي للتصَوُّف هُو كمَا قلت فهمًا للذات/النـَّفس/الباطن، لأنَّ فهمَ الذاتِ يتطلبُ القيَام بجهَادٍ رُوحِيٍّ، بهَدَفِ تزكيَـة النـَّفس التي هِيَ مُحرك الذات وإحيَاءهَا بالمَحَبَّة و تنشِيطِهَا بقيم الخَير والجَمَال والاعتدَال، وكذا تخليتهَا من قيَم الرَّذيلـَة الكـَامِنـَة والقـَابعَة فِي النـُّفـُوس وتنقيتهَا من أدْرَان الحَسَدِ والجَشَع والكرَاهيَـة والمَكـر..إلخ،

وهَذا الجهَادُ لا يُمكن أن يتمَّ عَبر رحلةٍ فردَانيّة تكون فيهَا الذات بمَعزل عَن الآخر، بل عبر رحلـَةٍ تتشَضى فيهَا الذات وتنسَجمُ مَع الذَّوات المُختلفـَة والمُتناقضِة، فِي سَبيل الحُصُول عَلى فهم عَمِيق لذات الآخر وبعد آخر للمُجتمع يفتح أمَامَنـَا آفـَاق التعَايش والتـَّسَاكن والتـَّوَادُد رغم اختلافات الظـَّاهر ( اللـُّغة، الهُويَّـة، الثقـَافـَة، الأصل، اللـَّون، الشَّكل…) واختلافات البَاطِـن ( العَقيدة، الدِّين، الأخـلاق، القنـَاعَات، السَّريرَة، العَاطفـَة..) وقد لا أبَالغُ إن قلت بأنّ مُمَارسَة السُّلوك الصُّوفِي مَعَ الآخر أشدُّ عَلى النـَّفس مِن مُمَارسة السلوك الصوفي مَع الله، لأنَّ المُمَارسَة الاجتمَاعيّة للتصَوُّف تقـُوم عَلى عَلاقة إحسان ومَنفعَة للنـَّاس كمَا ورَدَ فِي حَديث النبيّ الكريم (أحَبُّ النـَّاس إلى الله أنفعُهُم للنـَّاس)، كمَا تقومُ عَلى المَحَبَّة الخَالصَة كمَا قـَال المَسِيح في إنجيل لوقا:

 ( أحبُّوا أعدَاءَكـُم، بَاركـُوا لاعِنِيكم، أحسِنـُوا إلى مُبْغِضِيكـُم..) فضلا عن الصَّفح والعَفو والرَّأفة والمَودَّة والعَمل على التـَّغيير وعَلى إصلاح المُجتمَع ومُؤسَّسَات الدَّولـَة ومُحَاربَة الفسَاد الإداري والمَالِي والسِّيَاسِي والحُكـُومِي والقضَائِي بشَتـَّى أبعَادِه وتجَليَاتِه، فضلا ًعَن قول كلمة الحَق دُونَ خَوفٍ وخـَشيَة، وانتقـَاد الوَضع وانتقـَاد السِّيَاسَات العَامَّة سَوَاءً تلكَ التِي تديرُهَا الدَّولة عَبر الحُكـُومَة والبَرلمان والمجالس التشريعية والتنفِيذيَّـة، أو تلكَ التِي يُديرُهَا الرَّئيس أو الحَاكِـم، لأنَّ العِلـَّة والخَطأ قرينـَا كلِّ النفـُوس وفلسَفـَة الصُّوفي الإصلاحيَّة هِيَ تقويمُ الخَطأ والعِلل وعِلاج الأمرَاض سَواءً كانت متعلقة بذاتِ الفرد أو بذات المُجتمَع الذِي هُوَ أنـَا بصِيغة تعَدُّديَــة.

أمَّا فيمَا يَخُصُّ المُمَارسَة الفرْدانيَّة للتصَوُّف، فهيَ مَبنيَّـة عَلى جهَاد (التحَلـِّي والتخـَلـِّي والتـَّحَقق والتخـَلـُّق) القـَائم على الصَّلوَات والأورَاد اليوميَّـة والأذكـَار والاجتمَاعَات والخلوَات والزُّهد والتعبّد والتهَجُّد والتأمل في خلق الله..إلخ، فطبيعَة هَذِه المُمَارسَة هِيَ مُمَارسَة فردَانيَّـة تخص قلبَ المَرء ووجدَانـَه، وهَذِه العلاقة الضِمنيَّة أسميهَا بالتصَوُّف الفردانِي، وهَذا التصَوُّف لا مَعنى لهُ ولا نفع منهُ إذا لم ينتقل إلى الخـَارج، إلى المَرافق الحَيّة للحَيَاة ليشمَلَ كل جَوانِبهَا الاجتماعيَّة والإنسانيَّـة والحَضَاريَّة، فكثيرٌ مِن النـَّاس مُتصَوِّفـُون وإن لم يكـُونـُوا مُنتمِين لطريقةٍ صُوفيَّـة، فهُم  يتصَوَّفـُونَ عَلى طـَريقتِهم الخَاصَّة وعَلى نمَط عَيْشِهم وثقـَافتِهم الخـَاصَّة، ومَا تهَافت النـَّاس على صَالات التـَّأمل واليُوغـَا والتـَّايشِي وانجذابهم نحوَ الدِّيَانـَات الرُّوحيَّة (كيشي) و (دلايلاما) نموذجًا إلا دليلٌ على احتيَاج كثير مِن الناس إلى مُمَارسَة السُّلـُوك الصُّوفِي الفـَردَانِي والاجتمَاعِي.

أؤمِنُ بضَرُورَة التصَوُّف فِي الحيَاة العَامَّة خاصَّة فِي السِّيَاق الرَّاهن حيث تعُمّ الأزمات الدّينيـّـة والأخلاقيَّـة والإنسانيّـة كلِّ المُجتمعَات بدُون استثناء، وحينما أقـُول بأنَّ التصَوُّف كفيلٌ بحل الأزمَات فإنمَا أقصِدُ بذلك تصَوفَّ الأخلاق وتصَوُّفَ العِلم والعَمل، بحيثُ تكونُ إرادة الفعل الإنسانِي  مُسَدَّدة بمَكارم الأخـَلاق والمَقـَاصِد النبيلـَة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.