الرئيسية | سرديات | احتراق جسدين | عماد الورداني

احتراق جسدين | عماد الورداني

عماد الورداني  (المغرب):

 

يحترقان شوقا.. يتبخران، يصيران غيمتين، يتجاذبان، يصطدمان، تنير السماء قناديلها، يتحدان، ينصهران، يتوحدان، فيبكيان رذاذا شفيفا.

الرذاذ الشفيف يعزف سيمفونيته، يداعب التراب، يراقص الريح، يستفز المدينة وهي تغط في نوم عميق.. الرذاذ الشفيف يوقظ الذكريات، ينظف المرايا، والأيادي الآثمة تمسحه لترى وجهها بوضوح. تئد القطرات الواهنة، تمنع التحامها. الأيادي الخشنة تشاهد من وراء النوافذ انتحار الرذاذ، تباركه، تسخر منه، تتأفف من ضجيجه، تلعنه، تسدل شراشفها لتختلي إلى أحلامها، وحده أوف يتابع مشهد الموت، يؤجله، يعذب القطرات الخفيفة، يشوه موسيقاها، يلعن رقصتها، يقمع رغبتها، حتى تستعيد المدينة نومها الهادئ.

أوف يؤجل الموت بشرف..

أوف يؤمن مساحة صمت ملغومة..

أوف يكتمل بين الشفاه ليجيز الولادات الهادئة..

لم يكن رذاذا، وهي لم تكن زخة مطر صيفية، وأوف ظل معلقا في أبواب المدينة يراقبهما كإله لا يؤمن بالغفران، يرسم لهما مسافة ضوئية توزعهما إلى جسدين عاريين، يكتويان برغبات محمومة متخيلة، لا يستطيعان البوح بها، فعيون أوف لا تطرف..

هو بوذي صغير، يحمل مزماره كل مساء، وينأى بنفسه خارج المدينة، ليشهد فجيعة الرذاذ، يراقب اختلاطه مع التراب، ينصت لسيمفونيته، يشاركه العزف، ويترك جسده يراقص صوت الريح، وهو يرمي بالقطرات صوب أشجار السرو.. يقيم مأتما ليرثي الرذاذ، ويشيع شمس الخسارات إلى بحرها الوثير، ثم يدلف إلى المدينة متجنبا العيون المتلصصة، والشفاه المرددة»الأصلع الجاحد”. البوذي الصغير لم يكن يسمع سوى سيمفونية الرذاذ، بينما أوف يتابع مشيته العجلى، ويحصي أنفاسه.

هي هندوسية تشوهت يوم ولدت قبل الأوان، ولأن الأم داهمها المخاض وهي تغتسل بماء الرذاذ، حرصت أن تؤجل صرختها حتى تكتمل استدارة بطنها، لكن العيون المتلصصة التي ترتاب من الحذر، ظلت تفتش عن اللحظة المكتومة، ظلت تلوك سيرة البطن المشوهة، فحاكت حكايتها بعد أن عمدها أوف.

هي الناقصة المشوهة، المحرومة من مصل النوم، ترعرعت قلقة، مرتابة كسمك السلمون، ولأن نظرات المدينة تنفيها باستمرار، تشكك في أصلها وفصلها، تعجن سيرتها بالتراب، نأت بنفسها خارج المدينة لتستحم بماء الرذاذ، ولتكنس بقايا الوحل العالق في ذاكرتها، تصرخ بحرقة وهي تتمرغ في البرك الطازجة، تغتسل من الأصفاد الصدئة، وتحيي زهرتها البرية، تتغزل بالرذاذ وهو يداعب خذها الأسيل، يطفئ حرائقها السرية، يشجر مساحات مقفرة، بينما أوف يتوعدها.

البوذي الصغير يتمادى في عزف مقطوعته، والهندوسية تتوسد ضفيرتها وتنصت لنشيدها.. الأصلع الجاحد يعزف، ينزف، يجري، يعوي، يسابق الرذاذ ليكتمل. المشوهة تنتعش، تبتهج، تتلذذ، تتعذب، وبغنج تراقص الرذاذ لتحس بأنوثتها.. يعزف، تشهق، يجري، تبكي.. مساحة ما بينهما تولد من جديد، تورق، تخضر، تشع.. مساحة ما بينهما تطوى. العزف يرتفع، والنشيد يرتجف، عيونهما المندهشة تترقب أي الأيادي الجريئة ستمتد لتصافح يدا أخرى.. كلاهما يبحثان عن علامة سؤال ضائعة، وأوف يراقبهما. من أنت؟ من أنت؟ الأسئلة تتناسل من الفراغ، وشهقات الحزن ترتفع، تربو، تنتفخ، تتدحرج، وأوف يمدح الخراب.. شهقات الحزن تنفجر، تسيل شلالات جارفة، وأوف يعقد حاجبيه بحنق. تطوى المسافة أكثر، يتبادلان الأنظار، الأسماع، الأنفاس، ولا يتعبان، يتوحدان، بينما الرذاذ يعزف سيمفونيته. أحس بالشمس تبارك هجنته، أحست بالوادي العميق يطهرها من حكايتها، وفي الحلم تقابلا، تواجها، تعانقا، دون أن يتكلما.

  • أنا البوذي الصغير، طريد المدينة، أصلعها الجاحد.

  • أنا الهندوسية المشوهة، منذ أن ولدت أجبرت أن أكون ابنة الماء.

  • محنتنا واحدة، تنفينا المدينة إلى هوامشها لتنام بعمق، لهذا اخترت الصمت والفرار.

  • محنتنا واحدة، ولدنا من رذاذ شفيف، لهذا تطردنا المدينة باستمرار.

  • آن لنا أن نفرح..

  • سنفرح، سنفرح، سنفرح..

يضحكان، يقهقهان، المزمار يضحك، العزف يضحك، الضفيرة تضحك، التراب يضحك.. وأوف يراقب بغضب متزايد. يرقصان، يسبحان، يحلقان.. يلجان باب المدينة، يتأملان أوف الغاضب، الحانق، المحترق بنيران الانتقام.. يغيظانه بقبل هوائية، لا يأبهان، يسيران، الرذاذ يبارك خطوهما، والعيون المتلصصة تستنفر حواسها لتفهم، بينما الحكاية تتفشى في دروب المدينة، وأوف يلعب بشظايا النيران يطوح بها في أرجاء المدينة لتلتهم المسافات الآمنة.. العيون المتلصصة لم تعد متلصصة، شفاه الأقنعة تلوك حروفا دون غيرها، وأوف وحده القادر على الغفران لكنه لا يغفر، وهما يفران  من الأفأفات التي تحاصرهما، يصلان إلى قلب المدينة، أوف يعدو ليصل إليهما.. وفي وسط المدينة تحلقت الأفأفات حول أذنيهما، موسيقى الرذاذ تعزف وهما يرقصان، أوف يصرخ، يصرخ، وهما تعانقا، التحما، فاحترقا. الدخان يحلق في السموات، الجسدان يتآكلان، يتلاشيان، اكفهرت السماء، أمطرت رذاذا وسخا، سرعان ما غرقت المدينة في مائه، وأوف يتشبث بآخر قطرة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.