عبد الإله المويسي (المغرب):
valladolide
ciudad rodrigo
marso 2007
عزيزي آبيل
أكتب لك هذه الرسالة الأربعاء ليلا، بعدما كنا قد قضينا يوما كاملا دون أن نتهاتف، يوم أدركت فيه، بقوة، المعنى المر للحزن. فقد شعرت أن مشاعر الفرح و الثقة التي طالما تبادلناها بحرارة قد انتهت في لحظة. وبعد أن تأملت الأمر مليا تأكد لي أن ما حصل بيننا يومها، كان مجرد مشادَّات غرور عابرة.
الآن أحس أني استعدت فرحي، وأني استعدت معه رغبتي في الحديث إليك. وها أنا أحادثك الآن كتابة، آملة أن نحقق المعنى الأفضل من الفهم المتبادل بعد الذي حصل.
تبدو لي الكتابة في مثل هذه الحالات أَلْيَق، لأن المشافهة عبر الهاتف تكون أحيانا ذات إيقاع متسارع لا يمنح مساحة كافية للتدقيق في تعابيرنا. وغالبا ما تؤول معاني مشاعرنا الأصلية التي نكنها، في مثل هذا الوضع، إلى حال تفهم فيه عكسيا.
Tesoro
وعندما أناديك هكذا، فأنا لا أقصد فقط استعمالها ككلمة حب، ولكني أميل إلى التعبير بها عن المعنى الدقيق والحقيقي الذي استشعرته أول ما التقيتك. كنت بالنسبة لي مَنْجما حقيقيا يفيض بمشاعر الحب والدفء، مثلما كنت بالنسبة لي صورة احتملت من أول نظرة أني أقتسم معها إرادات عدة. كنت حقا كنزا.
وهكذا ففي مثل حالات العثور على كنز ذي قيمة عظمى تقتضي النباهة ألا نكون متسرعين في كشف خباياه، ينبغي أن نمنح أنفسنا كامل الوقت كي يصبح شيئا حقيقيا بين أيدينا، شيئا غير قابل لأن ينتزع منا ساعة الاهتزازات.
عزيزي
يذهب بي التفكير أحيانا إلى الاعتقاد أن الجاذبية والميل القوي الذي نحسهما تجاه الآخر أساسيان في بناء أية علاقة حب، غير أني أعتقد معه أن هذا المسعى سيظل في حاجة قصوى، وعلى نحو مستمر، إلى جعله يتقوى بقيم أخرى مصاحبة، بالذكاء والتفكير الحاد وبالجدوى.
دعني الآن أكاشفك قليلا.
لقد آلمك من جانبي أني تصرفت على نحو غير لائق في بعض مواقفي خلال لقائنا الأخير، كنت لاحظت هذا في بعض ردودك الغاضبة، وأرى أن هذا يقتضي مني أن أصارحك بكل ما كان قد خامرني من مشاعر وقتها.
حقا، كنت دعوتني إلى شقتك، وكم كان الأمر مبهجا بالنسبة لي أن أدخل بيتك، فدخول بيت من نحب يعني دخول حياته، هكذا أتصور الأمر. غير أن ما ينبغي أن تدركه أنه كان صعبا علي للغاية أن أغامر وأقتسم معك حميميات بيتك، أقتسم معك وجودك الصغير الذي كنتُ أجهله لحد تلك الساعة. كنتُ حقا أحتاج أن أضع مساحة مكانية بيننا مثلما كنا جعلناها زمانية من قبل، أن أكتسب معرفتك من خارج وحدة المكان.. جزءا بجزء، ملمحا بملمح، وطبعا بطبع.كان ذلك يتطلب أن أصحبك وأكتشفك ثم أعطي لنفسي مهلة أنصت فيها في عزلة إلى تداعياتك فيَّ.
كنت، كما لاحظت، قد حجزت بالفندق، وكنت فعلت ذلك تجنبا لكل تلك التعقيدات الصغيرة التي تحصل في التواصلات المكثفة داخل ضيق المكان، والتي عادة ما نتجاوزها في وقتها، والأصل أننا لا نتجاوزها، بل نراكمها في منطقة غامضة بداخلنا تجعل منها مع توالي الأيام بواعث للانزعاج.
من جانب آخر، ما كان قد اضطرني إلى أن أختار فاصلا مكانيا بيننا، هو حاجتنا الطبيعية إلى استعادة ذواتنا من الآخرين. إن أية علاقة حب في معنى من معانيها هي علاقة تطمح إلى أن تتحول إلى تمليك، أو هكذا يبدو لي. وبقدر ما يتعزز فينا هذا الاعتقاد، تتعزز معه لدينا الرغبة القوية في التحرر، الرغبة في الانعتاق ولو للحظات من تلك العبودية الجميلة. نحتاج، لو أستطيع القول، إلى استعادة ملكيتنا الذاتية. يحصل هذا في العلاقة بين اثنين، ويحصل بكل تأكيد حتى في حالة العلاقة الأحادية. أحيانا نشعر أننا في حاجة إلى استعادة ذواتنا من ذواتنا، نحتاج أن نخرج منها كي نتمكن من رؤيتها على نحو أكثر تحديدا ووضوحا من الخارج. بهذا فقط أستطيع أن استمر في أن أكونني ما دمت على معرفة بي وإلا فقدتني.
شيء آخر أزعجك، وكنت رأيت آثاره مرتسمة في عينيك. أزعجك أننا تحاببنا بما فيه الكفاية وبجنون أحيانا دون أن نمنح المعنى المتجسد لغليان تلك المشاعر الحميمة فينا، تحاببنا دون أن نتجاسد. ويحلو لي أن أنعت الأمر بهذه الصيغة الملطفة. لم أتوقع أبدا أن يصل الأمر بك إلى تلك الدرجة من الألم التي كنت أراها في ابتساماتك الباردة. لقد اعتبرتُ الأمر شكلا من منح الجسد حريته وكينونته المستقلة في أن يحدد هو بنفسه رغباته في الاستسلام أو في التمنع. للجسد يا عزيزي منطقه الذي لا يعبأ بنا أحيانا، منطق قد يبدو غريبا بالنظر إلى نزعتنا الاستبدادية. وأؤكد لك آبيل أننا استطعنا أن نصنع ميلنا الروحي القوي تجاه بعضينا خارج تلك اللعبة الجسدية المضنية. ولقد منحني ذلك معرفة أدق وأعمق بك، وجنبني أن أقع في قبضة تلك القوة التي تشبه
المخدر. لم أكن أرغب في أن أغالطني تحت تأثيره السحري، لأن التخدير يتيح مجالا أرحب للمغالطات.
لسنا دائما أحرارا آبيل، ينبغي أن نقتنع بهذا، وحتى في علاقتنا بالأشياء التي نتشكل بها، والجسد واحد من هذه الأشياء.
إننا بكل تأكيد غامضون، ونستطيع أن نصنع وضوحنا فقط عندما ندعو كل شيء فينا للكف عن مسايرتنا ومجاملتنا. ينبغي أن نؤسس معنى متساميا متسامحا بيننا وبين تلك الأشياء الصغرى التي نكون بها.
لقد كنت أشعر أنني أتداعى وأنا بين ذراعيك تحضنني، كنت أشعر أن لذلك وقع قاهر على إرادتي التي أفضل أن تظل متمسكة على الدوام بحد أدنى من المعقولية.
ليس صحيحا أن المعنى المتجسد هو الذي يمنح المشاعر صدقها وواقعيتها. ما يمنحها ذلك هو ساعة يتم لها ذلك بتلقائية كاملة. وقد كنت أحس ونحن نتحاضن أو حتى ونحن نَتَمَاس أن عائقا جسديا يمنعني من أن أنهار بين يديك.
لا ينبغي آبيل أن يعني هذا لديك، على الإطلاق، أنني كنت مترددة في مشاعر حبي تجاهك، أو أنها كانت تتغامض لدَيَّ. كنت واثقة أني أحبك، أحبك بجنون، غير أني كنت متشككة في قدرتي الذاتية على حماية هذه العرامة من المشاعر التي أكنها لك، حمايتها بقدر يؤَمن استمراريتها.
أستطيع أن أقول بنوع من الاعتراف، أني كنت أحيا حالة خوف رهيب من شيء ما. وأنا أتمنع من أن أسلمك نفسي إنما كنت أتمنع تجاه خوفي من أن أفقدك ربما. قد يبدو عذري هذا غامضا، أو متفلسفا بمعنى من المعاني، أو حتى سفسطائيا، لكني على كل حال كنت أحياه، ولم يكن بإمكاني تفاديه.
عزيزي
ربما كنت رهنت نفسي، بشكل قاس، إلى تلك الحالة الرائعة التي انتابتني لحظة البداية. وما أفتأ إلى الآن أعيد في ذهني بدفء غريب لحظة التقينا، أو لحظة اكتشفتك. وبقدر ما كانت بدايةً منحتني فيها كل تلك المشاعر المشتعلة، كانت نهاية أيضا، نهاية مرحلة عقم طويلة كنت سجنت نفسي بداخلها. وربما هذا ما يجعلني أحبك بجنون، وبرعب أحيانا. كم أتمنى عزيزي لو أمكنك أن تفهم، بشكل مقنع، ما اضطرني إلى أن أكون بجانبك على تلك الصيغة اللعينة التي أقلقتك.
هل علي الآن أن أعدك أن الأمر، بكل تأكيد، آيل إلى ما هو أفضل؟ أو هل علي أن أعدك بما هو متاح أو ربما غير متاح لامرأة مثلي ترتعد أمام مجرد فكرة الفشل؟
دعنا آبيل نسلم أمرنا لما سيؤول إليه من تلقاء نفسه. ليس علينا أن نخطط لمشاعرنا، سيكون الأمر، يقينا، أشبه بادعاء معرفة الغيب. الإنسان هو الذي يصنع الطرقات، يصنعها بما هو متاح له، يصنعها بخطوه، وبهذا وحده يستطيع أن يملي اختياراته. أن يختار خطوه وليس طريقه. وها أنت عزيزي ترى أنني أخطو في اتجاهك، وفي كل خطوة أكتشف أني سرت طريقا إليك.
عزيزي آبيل
أقدر جيدا الجهد الذي تبذله بشجاعة في أننا نتواصل بالأسبانية وليس بالعربية، وأعي بعمق معنى أنك تفعل ذلك. ومعناه أنك تضطر إلى التعبير أو حتى التفكير أحيانا بلغة تمنحك حروفها ولا تمنحك روحها، تمنحك الجانب الظاهري من المعنى، ولا تمنحك جوهره. وكم أتصور أن جانبا من سوء تفاهماتنا حصل بسبب عوامل من داخل اللغة. إني أقلب تعابيرك في كثير من الأوقات على عدة أوجه كي أقدِّر، بالتقريب، المعنى الذي تقصده. وأفعل هذا، متيقنة، أنك تقصد معنى نبيلا غير المعنى السيئ الذي توهمني به تعابيرك.
اللغة عنصر قوي في محنتنا عزيزي.
كان بودي أن أبادلك نفس الشجاعة، وأبذل الجهد كي أتعلم لغتك، على الأقل كي أضاعف من حظوظ تفاهمنا، إن لم يكن من أجل شيء آخر. وأنت تعلم آبيل كم تستهويني لغتك، وكم شكلت معرفتُها شغفا كبيرا بالنسبة لي من زمان، منذ أن كنت في طفولتي أقرأ بالأسبانية تلك الشذرات الرائعة من ألف ليلة وليلة، وأقرأ الشعراء العرب الذين لا يزالون يحيون بيننا إلى الآن كعظماء.
كي تفهم شخصا عليك أن تتحدث لغته. إلى هذا انتهى بي الأمر، لأنك بهذا ستفهم طريقته في التفكير وفي الحياة وفي الحب أيضا. وسأفعل آبيل.
شيء آخر أظنه سيقوي من عزمي لمعرفة لغتك، أن أقرأ ما تكتب بالعربية. فقد علمت أنك تكتب أشياء جميلة للصحافة. سيمتعني الأمر للغاية، لو أستطيع أن أكتشفك من داخل كتاباتك .
آبيل
أوشك أن أنهي هذه الرسالة، وعلي قبل أن أختمها أن أؤكد لك أنني انشددت بقوة إلى أشياء رائعة في شخصك….تلقائيتك، تلقائيتك في كل شيء، حتى في التعبير عن غضبك. وبالمناسبة تبدو رائعا وأنت غاضب على طريقتك. تعجبني فيك أيضا عزيمتك المذهلة لنيل كل ما تبتغيه، وحرصك على مماشاته حتى آخر لحظة يسقط فيها بين يديك…كما فعلت بي أيها العنيد. هذا دون أن أنسى الدفء العارم الذي تتمتع به شخصيتك، فأنت تؤنس من أول حديث. وأكيد عزيزي أن بك أشياء آمل أن يقودني خطوي إليها يوما ما..
Bueno abel
علي أن أضع ختمي الآن على كل ما كتبت، وعلي أكثر أن أجلس كطفلة بلهاء تضع يدها على خدها تنتظر جوابك من وراء زجاج نافذتها.
الساعة الواحدة و النصف
كتبتُ بحب وأغلقُت الظرف بحب
ماي