الرئيسية | منبر الموجة | ألف ليلة وليلة ولغزها الكبير | حمودي عبد محسن – السويد / العراق

ألف ليلة وليلة ولغزها الكبير | حمودي عبد محسن – السويد / العراق

حمودي عبد محسن 

نحن ندرك تماما أن كتاب ألف ليلة وليلة الذي بين أيدينا تمتلك حكاياته أصواتا متعددة بمعان مختلفة في كل حكاية من حكاياتها المحتفظة بخصوصيتها العربية ودلالتها وشكلها بإسلوب سردي قصصي بارع وشيق، وبلغة تنطوي على صياغة غير مألوفة آنذاك، إذ تمتاز بالغرائبي المثير والعجائبي الخارق، وكذلك تمتاز بإشارات واضحة إنتقادية للعام والشعبي، والخاص والنخبوي من خلال الأسطورة والخرافة اللذين دمجتهما الحكايات بتمثيلات رمزية تستنطق الذات، والكائن الموجود أثناء التحول والمسخ من كائن إلى آخر في بنية تخيلية لا مثيل لها، فهي ليست متعة وتسلية وترفيهة كما أريد لها من ممارسي النقد بل هي قيمة أدبية عالية، ونتاج إبداعي متميز في ذوقه ورفعته لحقبة تاريخية من الواقع الإجتماعي الإسلامي ـ العربي، فقد استطاعت أن توظف الجن والعفاريت والسحر والكائنات الخرافية في حكايات مدهشة فيها مغامرة بطولية شاقة وقاسية، وفيها مغامرات غرامية ساحرة ذات طابع وأصول متأطران ضمن أخلاقيات دينية غيبية، تتجاوز المعتقد العام والتقليد المنغلق السائد آنذاك في سياق عقلي، ونسق جديد منفتح بوحدة منسجمة على عصر متعدد الإصول والثقافات والأعراق الإنتمائية، لربما أريد منها أن تستجيب مع متطلبات العصر آنذاك، ومع مجتمع راح الإندماج يتمثل ويتشكل فيه بروح إسلامية دينية، فقد أحدث طفرة نوعية في عبور القيم التقليدية القديمة التي بات يصيبها التآكل والإضمحلال في واقع جديد، لذلك تعرضت في وقتها إلى افتراضات تشويهية، وطعن في مصداقيتها وأصالتها وتفاسير ذات مفاهيم قاصرة، فوصفت بأنها بدعة تفسد الأخلاق، وإنها تحرض على الوهم وفيها أباحية، وتفسد العقل والقلوب. هذا التفاعل التناصي بين النصوص سواء كان مرويات دينية أو موروث شعبي أو أدبي في تتبع المعاني والأحداث التاريخية والظواهر انضوى في حكايات ألف ليلة وليلة تحت ملامح اسلامية ـ عربية، وتمثيلات رمزية جديدة مع البيئة المتلقية، وهذا هو جوهر التلاقي والتبادل الثقافي بين شعوب الشرق في التداخل والتضمين والتأثير المتبادل، لذلك لا نتفاجأ حين نجد في ألف ليلة وليلة آثار ملحمة الأوديسة لهوميروس في السندباد البحري أو آثار بابلية حول الخلود كما في ملحمة جلجامش أو حتى فرعونية أو تركية أو مغولية. وهذا يدعونا أن نبحث بحثا تحقيقيا حواريا بمنهج الفهم والتفسير عن الجذور في تأليف الكتاب لمرحلة ظرفية تاريخية الذي أصبح لغزا كبيرا قديما وحاضرا، وهو يوحي أنه ينتمي إلى جهة معينة يتوافق مع منهجها الفكري، وبنيتها الذهنية، وتأملاتها للعالم المعاش، ومعرفتها التامة بالمظاهر الاجتماعية، والسلوك النفسي الفردي، وجغرافية المدن خاصة وإن الحكايات تعود إلى أزمان مختلفة، وتحتاج إلى تتابعية زمنية في التواصل بتدوينها لأنها مخزون متنوع النسيج، وكذلك كونه متنوع التخيلات، ومتباين الألوان، فمنها ندرك أن أكثر من مدون وراو ومؤلف ساهم في نسجها إضافة أم حذفا أم تشذيبا أثناء حقبة زمنية طويلة. وحين ندرس أسلوب النص، والمنهج الفكري، والقدرة الإبداعية النثرية التي كانت تسمى بالأدب العربي القص نجد أنفسنا أمام سرد قصصي لسيرة ذاتية، وهذا كان شائعا حتى في بدايات الإسلام ثم عندما ندرس الشعر الوارد في الحكايات نجده يحمل طلاسم وأحاج، وهذا أيضا كان سائدا في الشعر العربي القديم لكن الشعر هنا يلتحم بالنثر القصصي المتخيل بتواز وانسجام في الحكايات. كل ذلك يتيح لنا أن نستكشف ونمسك بمقاصد هذا الأثر العربي لمؤلفين مجهولين إرتأوا أن يخفون أسماءهم قصدا خشية على أنفسهم من الأذى في ذلك الظرف التاريخي. هذا يدعونا إلى نظرة متأنية متفحصة تراجع النص الذي يمثل الإنعكاس المباشر الذهني والروحي للواقع الإجتماعي آنذاك بعلاقة جدلية في طبيعة التناقضات والصراعات التي أدت أن يخفي المؤلفون أسمائهم لتكون مجهولة، فهؤلاء الملمون بأحداث ملموسة، ومعطيات تاريخية معاشة، ومعرفة كبيرة بالتراث الأغريقي والهندي والفارسي، ولديهم حس وتجربة عميقة بطبيعة ثقافات الشرق استطاعوا أن يدمجوها في ثقافة أسلامية ـ عربية. هؤلاء هم أصحاب العدل والصلاح، أصحاب الثقافة الوجدانية الجميلة، والتجدد، والخيال الذي لا ينضب، أصحاب الذاكرة  المتنامية مع الزمن، الساكنون بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية في القرن الرابع الهجري من هم؟!

قبل الإجابة على هذا السؤال لابد أن نتوقف عند القصة المحورية التي يطلق عليها البعض (قصة الإطار) حيث أن بطلة هذه القصة هي شهرزاد التي تختلف عن كليوباترة في توظيف جسدها وثقافتها وتعدد اللغات التي تجيدها في أيقاع يوليوس قيصر في حبها، وكذلك أوقعت انطونينو في حبها بعد مقتل الأول. كل ذلك فعلته كليوباترة بذكائها وفطنتها من أجل أن تنقض بلدها مصر، وكذلك من أجل أن تنقذ نفسها من الذل كملكة عظيمة لمملكة عظيمة. هنا شهرزاد في ألف ليلة وليلة شخصية أخرى تماما

لكنني أصاب بالدهشة كلما أعيد قراءة الليلة الأولى (البداية) من ألف ليلة وليلة، وكذلك عندما أقرأ الليلة بعد الألف ( النهاية) حيث أجد فيهما النفس الأنثوي الذي صاغ هاتين الليلتين كما لو أن مرشد التأليف هي أمراة لأنهما ليلتان لا يدركهما الرجل مهما تبحر في الأدب، فهي عندما تأتي متيقنة شجاعة بانتصار قدرتها مسبقا، ومستعدة للتضحية بنفسها ليس فقط أن تنقذ وجودها وجنسها الأنثوي كما يشير الكثير من الكتاب بل نجد رمزية أخرى ذات دلالة واضحة، إذ أن شهرزاد جاءت متطوعة كي تنقذ النسل في مملكتها، لأن الملك شهريار قد ذبح الفتيات العذراوات، فبدون الفتيات كيف تحدث ولادة جديدة، وكيف يستمر النسل البشري. هذا ما أريد أن أأوكد عليه كأن الرمزية هنا تشير إلى أن المنقذة في الأزمة الإنسانية هي الولادة الجديدة، لذلك وجدت أن أتوقف قليلا عند المدخل التحولي لكتاب ألف ليلة وليلة في ملامحه الرمزية البلاغية منطقا وحكمة سيما ونحن نواجه صورا تاريخية سواء كانت متخيلة أم مقتبسة أم مستمدة من أثر آخر تتناص معه أو تتناص مع نصوص أخرى حيث يقودنا هذا إلى استدلال من البنية الذهنية التي صيغت فيه الليالي من بدء القصة المحورية. هذه القصة تخبرنا عن الملك شهريار الذي اكتشف بعد عودته من سفر مع أخيه أن الزوجتين أوغلتا في الإباحية الفاحشة والخيانة مع عبيد سود، فيوعز شهريار بقتلهن، ويوعز أن يتزوج كل ليلة من فتاة عذراء، ويتم قتلها في الصباح. هذا الحدث التراجيدي الكابوسي أشبه بعقاب على الجنس الأنثوي الذي فيه يصبح شهريار سفاحا لا يستطيع أحد يوقف إنفلاته المرعب للإنتقام من فتياة بريئات، ثم تحدث المفاجئة التي لم تكن في الحسبان حيث تجسد نقلة نوعية توحي لنا بمغزاها أن شهرزاد ابنة الوزير المتعلمة التي تمتلك ثقافة معرفية بالتاريخ والعلوم الأخرى والتقاليد والعادات قد حلت بمخزون تراثي، ثم أبدت كفاءتها في السرد القصصي الشيق الممتع كي تتصاعد الدراما كصراع ما بين الحياة والموت، ما بين سلطة العقل وسلطة السيف، فقد جاءت باختيارها ورضاها لتدخل هذا الصراع العسير، فإن فشلت سيكون مصيرها الموت، وإن نجحت ستنقذ نفسها، وتنقذ جنسها، وتتجدد الولادة في المملكة، فدخلت شهرزاد عالما منغلقا مهموما ليس فيه إلا قصرا فاخرا، وبستان يتحكم به شهريار، خاصة وقد اتفقت مع أختها دنيا زاد أن تحضر ليلة زواجها، وتطلب منها أن تسرد لها حكاية في ليلة المصير، وهذا ما حدث بالفعل بعد أن استأذنت من الملك أن تسرد لأختها حكاية قبل موتها، فسمح لها شهريا ذلك ثم ابتدأت قائلة: (بلغني أيها الملك السعيد). هنا تكون اللية الأولى ـ البداية ـ دخولا تحوليا إلى حكايات الليالي في حيز هذا العالم المنغلق القلق. لم تنه شهرزاد الحكاية في الليلة الأولى حين حل الصباح، فتوقفت عن الكلام، وجعلتها تمتد إلى الليالي الآتية، ثم تتواصل الحكايات، وتترابط، وشهريار يؤجل قتلها في كل صباح، وينضوي تحت تأثيرها وهو يستمع، ويسأنس بها حتى تطول، وتمتد وتشمل الليالي التي جاء عنوان الكتاب باسم ألف ليلة وليلة، خاصة وإن الليل كما هو معروف للإختلاء والراحة بعد عبأ عمل النهار اليومي، لذلك نجد أن الدراما أخذت فعلها بإنتظار قرار الموت أو تأجيله في الصباح من قبل الملك شهريار، إذ نكتشف مدى القلق الذي حل على شهرزاد في كل صباح بالرغم من ثقتها العالية بنفسها، وشجاعتها غير المتناهية، وصبرها الطويل. تلك الدراما جسدت الكفاءة العالية التي تتمتع بها شهرزاد خاصة في القصة المحورية سيما وقد تجنبت الموت من خلال سردها للحكايات بقص لغوي ممتع فيه دهاء ساحر بإسلوب آخاذ بارع ذكي، وبلاغة رفيعة لتكون شهرزاد الراوية الأنثى، وليكون شهريار المتلقي الذكر الذي يقع تحت تأثير الحكايات مندهشا مبهورا بأساطيرها العجيبة، تائها بأحداث القص وشخصياته، وهو يتفاعل معها حسيا حين يكتشف أنها تحمل عبرة وتاريخ ومعرفة مما يجعله ذلك يتابع السرد، ويؤجل الموت، ويتسائل عن سر هذه المعرفة التي تتمتع بها شهرزاد بالرغم من أنها لم تعيش وتشهد أحداث الأزمنة المختلفة والأمكنة المتعددة دون أن يتلقى جوابا.

هكذا استطاعت شهرزاد أن تحقق ذاتها عن طريق روعة وعجائب الحكايات المليئة بالمغزى بتصاويرها الغريبة، وبنيتها المعبرة، وأعطت لليالي متعة بريئة خلاقة. ثم فيما بعد تصل الدراما ذروتها بعد أن استحوذت حكايات الليالي على كيان شهريار، وأسرت مشاعره بتذوق حقيقي، وجابت بذهنه عوالم كثيرة غامضة كانت بالنسبة له شيئا جديدا الذي صار يدركها لأول مرة، فتطلبت منه شهرزاد في الليلة الأخيرة ـ النهاية ـ أن يحضر لها أولادها الذكور الثلاثة، فلبى طلبها، ثم طلبت منه أن يعتقها إكراما لأطفالها. حينئذ بكى شهريار، وعفى عنها، وتاب عن العدوانية تجاه الجنس الأنثوي.

هذا التناسق والانسجام في القصة المحورية التي تبعتها الحكايات في الليالي الطويلة منذ البداية ثم إلى النهاية السعيدة بعودة الولادة خاصة وقد جاءت الإشارة في الكتاب إلى أولادهما: (واحد يرضع، وواحد يحبو، وواحد يمشي) فيهما دلالة على تجدد النمو، وقد ترافق ذلك مع تغير في طبيعة شخصية الملك التي تحولت بمرور الزمن إلى التسامح ثم الحب يجعلنا نتوقف عند المنهج الفكري ـ الفلسفي الذي انتج لنا كتاب ألف ليلة وليلة في هذه التقنية الفنية العالية للقصة المحورية والحكايات:

أولا: تناسخ الأرواح

لقد ورد التناسخ في أكثر من حكاية في ألف ليلة وليلة الذي ظهر جليا وواضحا في المعتقدات الدينية السحيقة سيما في مصر القديمة الذي أخذه الأغريق منها ليكون معتقدا فلسفيا ـ دينيا عند فيثاغورس وارسطوطاليس وسقراط وافلاطون الذي جعله الأخير في طبيعة النفس البشرية المتميزة عن الحيوان بالعقل المفكر دورة كونية تنتقل فيها الروح من الجسد الميت إلى جسد آخر حي، فالروح حية لا تموت بتنقلها إلى صورة جسد آخر الذي لم تختلف عنه في الجوهر والمبدأ البراهماتية الهندية التواقة للخلود. هذا، فمعتقد التناسخ كان موغلا في القدم حتى بعض القبائل العربية قبل الإسلام كانت تعتقد به، ولو تمعنا بدقة في الكتب التوحيدية ـ السماوية لوجدنا في نصوصها إشارات بينة إليه، سواء في التوراة أم الأنجيل أم القرآن الكريم الذي وردت في سورة البقرة، الآية 65 (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) فقد جعله في صورة قبيحة لكن مفهوم التناسخ تطور ليشمل الانتقال من جسد ميت بشري إلى كائن بشري آخر، وصار يفهم بالتقمص وهو التلبس في جسد آخر ثم صار يطلق عليه الحلول والإتحاد أما حين تنتقل الروح إلى جسد حيوان فتسمى المسخ، وإذا انتقلت إلى جسد النبات والشجر فتسمى الرسخ، وإذا انتقلت إلى الجماد فتسمى الفسخ، ولذلك اتخذت بعض الفرق الدينية الإسلامية من التناسخ مذهبا إعتقاديا ومنهم المعتزلة مستنديين بقول القرآن الكريم (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) سورة البقرة، الآية 53 . هذا وهناك بعض الملل تعتقد بدورة الروح، وإنتقالها ألف مرة، ثم تخلد في ألف مرة ومرة ـ 1001 ـ وحسب رؤيتها الفكرية أن كتاب ألف ليلة وليلة استمد من فكرة هذا العدد.

ثانيا: القدرية

لقد نشأت فرق ومذاهب فكرية متعددة منذ بداية الدعوة النبوية، ثم أخذت تتبلور أكثر لاحقا بعد الحروب والنزاعات، وبعد قيام الدولة الأموية التي شهدت فترتها معارك وانتفاضات حيث قمعت بشدة وبطش، وارتكاب مجازر، ثم انتشر الفقر بين عامة الناس، وزاد الثراء لدى طبقة الأمويين الحاكمة الإستبدادية، وحولت نظام الدولة إلى نظام وراثي بعد أن كان شورى، فتميزت هذه الفترة بالعنف والإضهاد لذلك كانت سلطة الحكم تبحث عن فكر في النص القرآني الكريم يبرر اضطهادها لمعارضيها ومخالفيها، فأشاع منظريها العقيدتة الجبرية كي تبررة مظالم الحكم التي تطورت لاحقا إلى السلفية، فأحيت القدرية نفسها متمثلة بالمعتزلة التي كانت الند والضد الكلامي  لتيار الجبرية، فمن هنا كانت النشأة الأولى للمعتزلة التي امتازت بالإحتجاج الصامت كرد فعل ضد الظلم والتعسف الأموي الذي انحرف عن العدل الذي كانت يبتغيه الإسلام.

آنذاك صار هناك تياران متصارعان لكل واحد منهما منهجه في رؤيته للخالق والدنيا والسلطة، وقد تبلورا بوضوح في نهاية الحكم الأموي وبداية الفترة العباسية، فصار يطلق على المعتزلة بالقدرية ( نفي القدر)، والتوحيد، وأصحاب العدل، والكلامية، وأهل العدل والتوحيد، والعقلية، وقد أطلق عليهم المسعودي العدلية بينما هم أطلقوا على أنفسهم بأهل العدل والتوحيد أما التيار السلفي فصار يطلق عليه أصحاب السلف الصالح والنص، وسلف الأمة أي ما نقل عن السلف.

هذا ونجد في حكايات ألف ليلة وليلة منهج القدرية المعتزلة في النظرة إلى العباد، إذ اعتقدت بأن العباد  أحرار، مستقلون، خالقون لأفعالهم دون مشيئة الله، ومسؤولون عن إرادتهم وإختيارهم للسلوك والنشاط الفعلي بحسنه وقبحه، فالإنسان مخلوق بإرادة ربانية، ومنزل أيضا بإرادة ربانية، فالله لا يعرف مسبقا الفعل، والإنسان يخضع في النهاية إلى المنهج العقلي في معرفة الله، وهذه النظرة تقترب إلى الفلسفة الإفلاطونية بالتوحيد بين الطبيعة الإنسانية المفكرة العاقلة والشخصية الفردية الذاتية الفاعلة، فالإنسان يقدر فعله وسلوكه في الخير والشر بينما كانت الجبرية السلفية ترى العباد أن قدرها سواء كان خيرا أم شرا هو بمشيئة الله، وإن إرادتهم وإختيارهم مناط مكلف، فلا إرادة لهم ولا إختيار دون مشيئة الله، فالحدث، والفعل، والظاهرة قبحا أم شرا لها قدرها الإلهي، لذلك نجد الحيات تغص في السلوك الفردي الذي طغى عليه العالم السحري الغرائبي سواء كان إيجابا أم سلبا، وبرزت الإعتقاد الفردي الإيماني وعلاقته بالقوى الخارقة، والصراع بين قوى الخير وقوى الشر، والأيمان بقدرته السلوكية التي تحلم  برؤى أنها بإمكانهما أن تحول الفقر إلى الثراء المترف.

ثالثا: السلطة

نتيجة الصراعات الدموية العنيفة بين الفرق الإسلامية المتنازعة حول السلطة قبل وأثناء الحكم الأموي التي أدىت إلى حروب كارثية وإضطهاد وبطش مروعين حاول المعتزلة أن يصلوا ما أفسدته النزاعات الدموية بمنهج فهم الخلاف والتعايش معه دون العنف الدموي بمنهج عقلي معتدل لذلك أطلقوا دعوتهم الإصلاحية التي أشبه أن تكون حلما بإقامة جمهورية إسلامية عادلة كجمهورية إفلاطون، لذلك اعتبروا بن أبي سفيان غير مؤمن بالإسلام، واعتبروا بني أمية جبارين مارقين اغتصبوا الخلافة الإسلامية كيدا، وجعلوها وراثية ملكية بينهم متجاوزين مذهب الشورى الذي أرسته التعاليم الإسلامية في الخلافة خاصة وان المعتزلة من منظري الخروج على الخليفة الظالم ، والنهي عن المنكر بالترشيد والإصلاح بالرغم من أنهم لزموا المهادنة مع الحكم الإستبدادي من جهة وثاروا عليه من جهة أخرى في انتفاضات محدودة، لكن لم يخرجوا عليه علنا في عموم الدولة الإسلامية. ربما ـ تحسبا أن سيوف بني أمية سوف تحصدهم، وأنهم لا يؤمنون أصلا بالثورات كما يشير بعض المؤرخين.

هذا، ونجد في حكايات ألف ليلة وليلة بشكل واضح التطرق إلى السلطة السياسية سواء سلبا أم إيجابا المتعلق بسلظة الرجل أم المرأة، ومن الملاحظ أنها استثنت الخليفة عمر بن عبد العزيز من عنفية الحكم الأموي، فقد وصفته بالزاهد الورع صاحب الأخلاق الفاضلة الحميدة، الحاكم العادل، وقد رفعته إلى منزلة لائقة مبجلة من مجمل حكام بني أمية بينما أعطت الحكايات سمة الحاكم العادل لهارون الرشيد كما أشرنا سابقا لكنها وصفته في نفس الوقت بالحاكم المطلق الفردي الذي لا يخلو حكمه من الإستبداد، فهو وحده الذي يقرر حكم الموت بالعباد أن كانوا مذنبيين، وهو وحده يعفو، ويجلد، ويعذب، ويصدر أمر القتل حسب هواه ومزاجه، وهو المفرط بالبذخ وتفريط أموال المسلمين، ومحب المديح والشعر والغناء والخمر وإقتناء الجواري التي بلغت ثلاثة ألف جارية، وألف غلام حسب ما تشير المصادر التاريخية. هذا وقد وصفت أيضا زوجته زبيدة صاحبة السلطة الأنثوية في قصر السلطة بأنه تنهي وتأمر وتعاقب وتبدد أموال المسلمين دون رادع.

لقد ورد المأمون في الحكايلت بالحاكم العادل العقلاني، الميال للعفو ونابذ الإنتقام ، خاصة وهو المعروف بميوله الفلسفية للمعتزلة ، فقد اعتقد بخلق القرآن، وإنه غير منزل، وأن الأنبياء بشر غير معصومين عن الخطأ لذلك رمى شيخ السلفية أحمد ابن حنبل في السجن. ثم فيما بعد وجدت المعتزلة إزدهارها  في زمنه سيما وقد اتسعت الرقعة الجغرافية للأسلام السياسي، وتعززت الدولة الإسلامية بدخول شعوب شرقية أخرى للإسلام، وتوسعت المفاهيم الثقافية بتمازج، وإندماج مع الحضارة الإسلامية ـ العربية تراثا وتجددا في مرحلة تاريخية اتسمت بنهضة علمية حوارية متفتحة، وقد تبلور عهد تنويري منطقي عقلاني لم يشهده التاريخ الإسلامي ـ العربي الذي لعب فيه بيت الحكمة دورا كبيرا بنهضة علمية ثقافية حيث اتضحت معالم أيدولوجية مأمونية تصاعدية نحو منهج جامع للمعرفة والفلسفة والأدب والترجمة والنقل ورسم الخريطة الجغرافية المعروفة بالخريطة المأمونية ، وكذلك شمل هذا المنهج العلوم الأخرى في الفلك والتنجيم والطب والرياضيات، فقد ترجمت عشرات الكتب من الاغريقية والهندية والفارسية إلى العربية التي أسهم بها شوخ المعرفة والعلماء من بيت الحكمة خاصة حنين بن إسحاق والخورازمي والكندي، وقيل أن ما نقله حنين بن إسحاق من اليونان إلى العربية كان يوزن ذهبا، ويتقاضى مقابله ذهبا كعطاء من المأمون، وتم إرسال البعثات العلمية البحثية إلى مختلف البلدان بغية التعلم والمعرفة، حينئذ شاع الجدل والمناطرة العقلية في زمن المأمون، ولم يختلفوا جميعا عن سعة معرفة وثقافة المأمون حتى راح يرددون لو لم يكن المأمون خليفة لكان أحد علماء عصره.

ثم حدثت ردة عنيفة دموية لا مثيل لها في زمن المتوكل التي تعرض لها المعتزلة والفرق الأخرى وما يسمى بأهل الذمة للإضطهاد والتنكيل والتعسف والتشريد والقتل، ومنع كتبهم وأحرقت، واطلق سراح احمد بن حنبل الذي كان يدعو إلى النهي عن المنكر بحد السيف، وتغيب العقل. آنذاك ساد الجمود العقائدي بالعودة إلى السلف الصالح بتفاسير ومفاهيم متنوعة بعضها مغلوطة، وبعضها مفبركة، لتجهض على نهضة إنسانية تنويرية مشرقة مزدهرة، وتعود بالدولة والمجتمع إلى عصر التحجر، وتعطل الفعل البشري بثقافة غيبية تستبد بعقول الناس، مكرسة كل شيء للجبرية دون مواجهة الحاكم الظالم بغية منهم أن يبرروا الظلم بأمر الله الذي تواصل إلى أكثر من ألف سنة وأصبح أيدولوجية، تم توارثها من جيل إلى آخر التي تبناها أحمد بن حنبل، ثم ابن تيمية ( 661هج ـ 7280ج) ليجعل دونها تكفيرا وإلحادا وزندقة، فكفر الفرق الإسلامية المتعددة واعتبرها من البدع، وشرع حد السيف ضدها بمبدا النهي عن المنكر. هذا وقد تلقفها جاهزة محمد بن عبد الوهاب الوهاب في القرن الثاني عشر الهجري مجتهدا في فروعها دون إصولها ليجعلها أكثر شدة في التكفير وحد السيف. وما زلنا نعاني منها حتى يومنا هذا، فقد فرخت لنا دكتاتوريات فاسدة في عصور فساد وظلم وإستعباد، وعدم إستقرار وتوتر وإضطراب التي نتج من رواسبها داعش وماعش ونصرة ومحنة.

من خلال ما تقدم، ومن خلال دراسة سياق القصة المحورية المتميزة بالإثارة والجاذبية في إنتظار نهاية الحدث، وترقب خاتمته، ومن خلال استقراء للحكايات سواء تلك التي يطلق عليها بعض الكتاب البغداديات أو تلك التي يطلق عليها المصريات التي امتدت لعصري الفاطمية والأيوبية، وكذلك عصر المماليك يتولد لدينا استنتاج مفاده أن تأليف الحكايات بدأت بعد صدور نصوص عديدة في الأدب أي أنها سبقت هذا الكتاب في العصر العباسي، وإن كتاب حكايات ألف ليلة وليلة الذي بين أيدينا هو نتاج عدة مؤلفين من المعتزلة، وهنا لابد أن نتوقف على بعض الدلائل التي تؤكد على صواب هذا الرأي:

أولا: أن ما أشار إليه ابن النديم، والمسعودي وأبو حيان التوحيدي ليس عن كتاب ألف ليلة وليلة الذي نقرأه اليوم، وإنما كانوا يشيرون إلى كتاب آخر سبق هذا الكتاب الذي يتناص معه فهم كانوا يشيرون إلى كتاب قد كتبه ابن المقفع (106هج ـ 142هج)، وعنوانه ليس ألف ليلة وليلة وإنما عنوانا آخر وربما يكون (ألف ليلة)، فقد وصف حكاياته ابن النديم بأنها (غث بارد الحديث) ولم يختلف عنه المسعودي في مروج الذهب ومعادن الجوهر حين قال عن الحكايات ( خرافات مصنوعة)، وكذلك وصفها ابو حيان التوحيدي بالخرافات، واعتبر ابن النديم والمسعودي أنها وصلت إلينا من الهند عبر بلاد الفرس سيما وأنها مثل كتاب (هزار أفسانة) والذي يعني ترجمته من الفارسية إلى العربية (ألف خرافة) بينما كانت حكايات كتاب ابن المقفع أدب حقيقي لا تختلف عن كتاب (كليلة ودمنة) في إسلوبه التي تستقرأ التاريخ، والفلسفة والطبيعة والموسيقى، وتنوع الاعتقادات والثقافات التي صارت مفتاحا لرسائل اخوان الصفا، وكان ابن المقفع الأب الروحي لاخوان الصفا والكثير من المؤرخين يعتقدون أن ابن المقفع هو مؤسسها، لذلك تعتبر حكايات ابن المقفع، لنقل عنها (الف ليلة) أثر تلتقي فيه ثقافات شعوب الشرق بقصص عجائبية تنتمي إلى اللامعقول، وتدمج اللاواقعي بالواقعي، واللاعقلانية بالعقلاني العادل الصادق. هذا ما نستشفه من كتاب ابن المقفع المفقود الغائب المجهول من خلال دراستنا إلى رسائل اخوان الصفا بغية إنشاء جمهورية عادلة يحكمها الفلاسفة والعلماء ورجال الدين الأتقياء الزاهدون، فجعل تلك الحكايات تراكم ثقافي سواء وصل إليه شفويا أم كتابة، ونزوع نحو خلق أدبي جديد يجمع بين ثقافات متعددة بإطار الثقافة الاسلامية ـ العربية التي تتحكم بها السلطة الإستبدادية، وتكاد لا تخرج من إطار فهمنا بكونها تناص مع نصوص أخرى التي تحدثنا عنها في مقالتنا السابقة الموسومة بعنوان ( تداعيات التناص بين النصوص الأدبية). إذن من مفهوم التناص بين النصوص نستوحي أن حكايات ابن المقفع تتناص مع (هزار أفسانة) الفارسية، إذ شهرزاد وشهريار كلمتان فارسيتان، الأولى تعني (الأميرة ،بنت البلد) كما في معجم الوسيط، والثانية تعني ( السلطان، الحاكم) والبعض يترجمها الملك. هذا وإن الحكايات تتناص أيضا مع (البنج تنترا) أي (أسفار الحكمة الخمسة) الهندية، وفي هذا المجال لم يخف عبد الله بن المقفع صاحب (كليلة ودمنة) أنه نقل كتابه من الهندية عن طريق الفارسية من كتاب (البنج تنترا) وانتجه متناسبا مع هوية اسلامية ـ عربية بحلة ثقافية جديدة لإنتماء جديد بتصورات أخرى، فهذا التناص بين النصوص نجده في (كليلة ودمنة) مع ما سبقه من كتب، ليتناص معه كتاب التوحيدي في (الامتاع والمؤانسة)، ويتناص معه كتاب ( أسمار العرب والروم وغيرهم) للجهشياري (331هج ـ ) الذي لم يكمله كما قال ابن النديم في الفهرست ( ابتدأ الجهشياري بتأليف ألف سمر من أسمار العرب والعجم فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار في الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات، وكان فاضلا، فاجتمع له من ذلك أربعمئة وثمانون ليلة، كل ليلة سمر تام، يحتوي على خمسين ورقة وأقل وأكثر، ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتميمة ألف سمر، ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي الشافعي).

 فحكايات (ألف ليلة) لابن المقفع يتناول فيها أصول إدارة السلطة والعيوب في دولة بني العباس سيما وقد كتب رسالة إلى أبي جعفر المنصور حول التميز بين سلطة الشورى التي تحولت إلى سلطة وراثية ملكية، وكذلك تضمنت حرية المعتقد، وحرية التفكير، وفساد مناصب كثيرة في نظام الدولة، ويدعو بها إلى إصلاح الدولة. هذه الرسالة لم تعجب ابو جعفر المنصور، والتي كانت سببا في تدبير عملية قتل ابن المقفع البشعة الوحشية التي لا يمكن أن تعقل أنه قتل لمجرد نعت والي البصرة سفيان بن يزيد بكلمة نابية لتقطع أعضائه ورميها في نار تنور متوقد حامي أمام عينيه، وهي تحترق، وهو يستمع إلى ما يردده سفيان بن يزيد: زنديق. نعم، ثم مات ابن المقفع  صاحب الذكاء المفرط، وسعة الفضل كما تشير المصادر التاريخية موتة مرعبة. أليس هو القائل في (كليلة ودمنة) على لسان البهائم والطيور: (عندما استقر له الملك طغى وبغى، وتجبر وتكبر). نعم رسالته إلى أبي جعفر المنصور، وكتابه (كليلة ودمنة) هما سبب موته، ولذلك دبر له أبو جعفر المنصور هذا الموت الشنيع بتهمة الزندقة. ثم هناك أمر مهم أن ابن المقفع لم يعلن عن أسمه في تأليف (كليلة ودمنة) في باديء الأمر، وهذا كان شائعا في ذلك الوقت لدى المؤلفين خشية أن يتهموا بالزندقة، فأما ينتحلون أسماء أخرى أو ينحلون كتبهم إلى اسماء أخرى كما فعل ابن المقفع أن نسب كتابه (كليلة ودمنة) إلى عالم هندي.

وهذا يقودنا إلى أن (ألف ليلة) للمقفع الذي لم يذكر أنه هو مؤلفه، واختفى الكتاب دون أن نعرف عنه شيئا، فكيف يا ترى لو أعلن اخوان الصفا أسمائهم، وهم الذين ساروا على منهج ابن المقفع في تأليف رسائلهم لتكون أدب صفوة.

أجل، أن النسخة الأصلية لحكايات(ألف ليلة) لابن المقفع قد اختفت أما كتاب ألف ليلة وليلة الذي نقرأه اليوم، فهو كتاب المعتزلة الذي وضعه الجهشياري (أسمار العرب والروم وغيرهم)، فتلاعبوا فيه، وغيروا فيه، أضافوا وحذفوا، وتنقلوا به عبر بلاد الشام، ومصر، وعبر أزمان مختلفة، ليكون متناسبا مع فكرهم بالرغم من أنهم أدخلوا أشياء لا يعتقدون بها مثل السحر والجن والعفاريت والملائكة، إذ جعلوه كتابا شعبيا يتناسب مع تغيرات الواقع التاريخي والاجتماعي خاصة لم يبق لهم أي أثر في السلطة أثناء حكم المتوكل وبعد انتصار الفكر السلفي، فمنهم من هادن السلفية مثل الأشعري، ومنهم من هرب من بغداد، ومنهم من تخفى في البصرة إلا أن فكرهم لم ينته.

وهناك قضية لابد الإشارة إليها في نهاية هذه الدراسة المكثفة، إذ ليس من المنطق أن ينسب كتاب ألف ليلة وليلة الذي نقرأه إلى التوحيدي لأن لغته لا ترتقي على الاطلاق إلى فصاحة كتب التوحيدي بلاغة وفصاحة ومعرفة بالرغم من أنه اتبع نفس إسلوب التوحيدي في (الامتاع والمؤانية) الذي جعل التوحيدي الليلة الأولى مدخلا وبداية محور قصصي لسبعة وثلاثين ليلة، وكذلك أدخل الشعر البليغ،  فهذا الرأي مجرد تكهن مثلما هو حدس أن ينسب كتاب ألف ليلة وليلة إلى ابن المقفع، لأنه يعتبر ضعيف لغويا بالنسبة إلى كتب التوحيدي، وابن المقفع، فأصله وإنتمائه يعود إلى (أسمار العرب والروم وغيرهم) للجهشياري الذي سخرته المعتزلة لمنهجها الفكري بعد أن فقدت إزدهارها في سلطة المأمون.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.