الرئيسية | سرديات | ألا لعنة الله على الهندسة | فهد منديل

ألا لعنة الله على الهندسة | فهد منديل

فهد منديل:

 

يا أخي أنا لم أحلم يوماً بأن أدرس الهندسة، ولم أتمنى  في يوم من الأيام التي كان فيها الحلم مشروعاً أن أصبح مهندساً، بل لم أسمع بهذه المهنة حتى شارفت المراهقة، ولم أكن أفهم ماذا يعني أن تكون مهندساً حينها، كان أذكى أبناء الدوار، الذين كان لهم الحظ في إتمام الدراسة طبعاً، يصيرون معلمين وفي أحسن الأحوال يصبحون أساتذة، لكن صدقني لم أحلم أن أكون معلماً ولا أستاذاً مع ذلك. في الحقيقة لا أتذكر أني حلمت بالمهنة التي سأقوم بها في المستقبل، ذلك أن المستقبل لم يكن حاضرا أبدا حينها، لا أتذكر أني جلست يوماً وفكرت في الأيام القادمة كيف ستكون، لا أعلم السبب الذي ألغى المستقبل وقتها رغم أن ذلك الحاضر الذي كنا نعيشه لم يكن حاضرا مبهجاً، كان حاضراً غائما على الدوام، لا أتذكر كيف كنت أفر من كل ذلك، المنطق يقول أن الفرار يكون بالتفكير في غذ مشرق و أفضل حالاً، وبما أني لم أكن أستحضر المستقبل بأي شكل من الأشكال فكيف كنت أفر؟

كما سبق وأخبرتك أن دراسة  الهندسة لم تكن تحضر لا برغبة ولا بحلم يقظة، إلا أنه في مرحلة قادمة حدث شيء ما داخل دماغي لقد أحسست بذلك الشيء الذي تحرك في مؤخرة رأسي، لا أعلم بالتحديد ما كان ذلك الشيء الذي سببته نظرة أحد الجالسين قربي على الطاولة بعد أن وزّع علينا أستاذ الرياضيات أوراق الفرض الكتابي الثاني في الشطر الأول من السنة الدراسية، حصلت على  5/20، لم تكن النقطة الأخيرة، من رحمة  الله أنه أرسل إلى ذلك القسم الذي كنت فيه  من هم أسوأ مني ومن كان لهم هوايات متعددة ولم تكن الدراسة ضمنها بكل تأكيد، لم يكونوا أغبياء حتى يثقلوا رؤوسهم بكل تلك التمارين والمحفوظات في مثل هذا العمر الذي يجب أن يلهو فيه الانسان بقدر ما يستطيع و يذهب بالأمور إلى أقصى الحدود، أنا كنت بين بين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أمنت دائما بأن خير الامور أوسطها وبذلك وقفت في الوسط كإبرة الميزان اليدوي، لكن تصريح ذلك الصديق الغبي الذي كان يجلس قربي حينها سيفسد علي الأمر وأغادر مكاني. فيما سبق لم أكن ألقي بالاً لأي شيء له علاقة بالدراسة والحمد لله أني لم أولد في تلك الأسر التي تقوم بوظيفة المعلم والاستاذ في البيت، كانت كتب المقرر والتمارين أو ما كان يسمى حينها “التحضير” آخر ما يشغل بالي عندما أغادر باب المؤسسة، عند الباب ينتهي كل شيء له علاقة بالدراسة حتى الصباح الموالي، كان الوضع ممتعاً بلا ريب، أن تقرر من بداية العام أنك لن تحضر أي من تلك الواجبات التي يأمر بها الأستاذ وتكون مستعد لتحمل تبعات هذا القرار، إنك بذلك تتخلص من ذلك التردد الذي يصاب به أغلب المتذبذبين بين الكسالى والمجتهدين في كل مرة يُطلب منهم القيام بواجب مدرسي للغد، يتأرجح عقله بين “ساقوم به” “لن اقوم به ” سأخرج وسأذهب إلى الملعب لأتدرب مع الرفاق استعداداً للمباراة النهائية في “دربي الاحياء” ثم اقوم به” لكنه لن يقوم به فتضيع منه تلك اللحظة، أنا لم أكن أتحمل حتى عناء كتابة ما هو مطلوب  حين يقوم الأستاذ بإلقائه، كنت أقول له في نفسي إن قمت بها  فتعال و ابصق في وجهي ،و كثيراً ما كان الامر فعلاً  ينتهي بالبصق و النتف و الطرد، يا أخي إنهم يسرقون يومنا كاملاً نمضي من الصباح إلى المساء في حفظ أشياء لن نتذكرها والقيام بعمليات الطرح و الضرب و القسمة   ،و الاسوأ  من ذلك أنهم يخلطون علينا الأمور في كثير من الأحيان، تخيل أنهم في الابتدائي كانوا  يخبروننا أن العميلة  10-3 غير ممكنة وعندما نجحنا – من نجح لأنه درس و من نجح فقط هكذا لان الخط الاحمر  للنسبة المئوية التي يجب أن تنجح ذلك العام كان رحيمًا به- و استوينا على مقاعد الدراسة في الأولى إعدادي أخبرنا أستاذ الرياضيات وكنا نسميه استاذ ‘الماط” حتى نفرق بين المرحلة التي كنا فيها و التي صرنا إليها الان، أخبرنا أن 10-3 عملية ممكنة، لك أن تتصور  هول الأمر على أدمغتنا الصغيرة، لقد صرخنا به جميعا كل من مكانه لا يمكن، لايمكن،لا يمكن ،صرخنا حتى بحت حناجرنا، حتى اني أبصرت  إحداهن، في الحقيقة لم أبصرها صدفة، هذه الفتاة من أول يوم دخلنا إلى القسم قررت في نفسي أني سأحبها هذا العام و سأكتب لها رسائل كثيرة، في العام القادم سأفكر إذا كنت سأستمر في حبها أم لا، كانت أجملهن في القسم وكان لها غمازتان  ،يا اخي كنت كلما ابصرتها تمشي و الغمزتان تزينان وجهها الأملح   أحس بقلبي يضرب بقوة و بحرارة غير طبيعية في رأسي، ذات مرة طلبت  مني دفتري لتنقل شيئًا مما فاتها في السبورة، اختفى صوتي ولم أجد له أثراً كلما حاولت أن انطق أحس أن هناك ما يمنع ذلك، كأن كتلة اسمنتية سدت مخارج الحروف، ولأني لم أكن  ممن يكتبون ما في تلك السبورة اللعينة، أخدت  دفتر الذي يجلس بجانبي على أنه دفتري وقدمته لها،لم أكن لأقبل لنفسي أن أبدو غبياً أمامها،صعب جداً أن تبدو غبيا أمام من تحب صدقني صعب،على كل في غمرة احتجاجنا على أنه لا  يمكن أن ننقص من 3 العدد 10 كنت أنظر إلى المسكينة وهي تصرخ بكل قوتها وفي عيناها الطفوليتين أثر دموع  ستسقط ،حتى أكون صادقاً أكثر معك، من يومها كرهت أبو الدراسة صحيح أني لم أكن أحب الدراسة من قبل لكن يومها عرفت كيف يجب أن أحس تجاهها، وكما جارت العادة في أية انتفاضة كان هناك من استوعب الامر و رضخ وكان هناك من لم يقوى على التحمل و سبب له الامر صدعاً لأيام و قرر أن ينهج سياسة معينة ضد هؤلاء الذي يتلعبون بنا في كل مرة بين ما يمكن وما لا يمكن، أما أنا فقد علمت كيف سينتهي الامر من البداية  ،هذا العام سيدرسوننا هذا على أنه يمكن أو لا يمكن ثم في العام القادم سيتغير الأمر ويصبح يمكن أولا يمكن، بعد هذا تردني أن أصغي إلى هؤلاء الحمقى؟ ألا تعتقد أني أملك كل الحق في موقفي الذي مارسته تجاه هذه المؤسسات التي لا تقدم لنا شيئا بقدر ما تسلب منا أعمارنا ونحن في أمس الحاجة إليها لنلعب و نلهو بما يكفى لان الايام القادمة تنذر أن ليس هناك لا لعب ولهم يحزنون، لم أكن  أتغيب لأمر واحد وكان صاحبة الغمزتين، كنت أقف وحيدًا في فترة الاستراحة،كنت أفعل هذا حتى أبدو غامضًا وعميقاً،كنت  أبصرها من بعيد وهي تضحك رفقة صديقاتها، يا أخي كانت لها ابتسامة  ساحرة تجعل المكان كله يرقص و يضحك ،عندما اقترب العام من النهاية استجمعت كل قواي بعد أن تفرجت في عدد لابأس به من أفلام الرومانسية الأمريكية المبتذلة  محاولاً تعلم كيف يجب أن تتحدث إلى فتاة أنت معجب بها وكيف تطلب منها شيئا، ثم استشرت مع أبناء الحي  الاكبر سنا والذين كانت لهم تجربة في مثل هذه الامور، الصيف طويل ولا أتحمل كل هذه المدة دون أن أرى وجهها الجميل .ليلتها كتبت رسالة نهائية ،كانت هناك مسودات كثيرة عرضتها على ذوي الخبرة ،وحتى أكون صادقا معك مرة اخرى قام أحد الذين كانوا يدرسون في الباكالوريا ذلك العام  بتغير كل ما كان في المسودة التي كتبتها، وكتب  أشياء  حتى أنا لم أفهمها كان يستعمل مصطلحات لم أسمع بها ابداً، ولكني وثقت به عندما قال فقط اعطها هذه و سترى كيف ستبكي و هي تقرأها ،كل ما تبقي علي في تلك المهمة هو نقل تلك الرسالة التي لم أكن أفهم فيها الكثير بخط يدي ،صباح اليوم الموالي توكلت على الله بعدما قرأت المعوذتين وتقدمت نحوها ونقطت باسمها الذي كاد يشل حركة قلبي ….ا…… نطقته بحروف متقطعة، متلعثما، أقبلت نحوى مبتسمة، ولا أخفك  أن رجلي اليسرى تجمدت وما عدت أحس بوجودها إطلاقاً،حفظت كل ما علي قوله مراراً و تكراراً و تبخر كل شيء في هذه اللحظة، كل ما قلته : أريد أن أقدم لك شيئا، منحتها الرسالة، وجريت كعداء المسافات الطويلة، ولم أعد من يومها إلى المؤسسة مع أن نهاية العام  كان يفصلنا عنها ما يقارب العشرين يوماً، لكنه انتهى بالنسبة لي ،ثم كيف سأواجهها عندما تطلب مني أن اشرح مضمون تلك الرسالة التي لا أفهمها ؟ لا أريد أن أبدو غبيا أمامها، صعب جداً أن تكون غبياً أمامها. انتصف الصيف عندما قابلت إحدى بنات الحي في حفلة عرس عائلي، كانت تدرس في نفس المؤسسة وأخبرتني أن صاحبة الغمازتين سألت عني مراراً، كان هذا الخبر كافيا لينتهي ذلك الصيف بشكل  جيد.

لقد كنت مستهترا بكل ما يخص الدراسة، ولم يكن هناك أبداً ذلك الحلم بأن أصبح شيئا عن طريقها، ولكن وكما أخبرتك سخرية ذلك الذي كان يجلس بقربي حركت شيئا في دماغي، ولا أعلم بعدها كيف وجدت نفسي داخل مدرسة للهندسة،كل ما أتذكره أني ندمت كما لم أندم يوما على السنوات التي قضيتها  في ذلك النوع من الدراسة، قد لا يكون هذا  نفس الشعور الذي تحمله تجاه الامر، أما أنا فلم يكن علي أن أدرس شيئا اسمه الهندسة من البداية، كان علي أن أستمر فيما كنت عليه،الحياة قصيرة جداً حتى أفقد خمس سنوات وربما أكثر في مقاعد الدراسة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.