الرئيسية | فكر ونقد | أدب السجون أم أدب المحن؟ | د. ناجي عقل

أدب السجون أم أدب المحن؟ | د. ناجي عقل

د. ناجي عقل

 

كتاب مضايا صراع الذاكرة والجدار 

أدب السجون أم أدب المحن؟

يمثل كتاب “مضايا…صراع الذاكرة والجدار” للسجين السابق “مراد العوني العبيدي”، سرداً صريحاً ومعلناً حول تلك التجربة السجنية التي قضاها في معتقلات مدن تونسية عدة منها “الكاف، سيدي بوزيد، قفصة ومرناق”، والتي امتدت لستة أعوام ونصف مع سجناء سياسيين، وآخرين من قضايا الحق العام، وكانت فترة دخوله إلى تلك السجون أثناء الاعتقالات الجماعية الواسعة الذي شنها نظام “بن علي” ضدّ أبناء حركة “النهضة” وتعذيبهم بأبشع الطرق وأشنعها.

تهم بالمجان

نصوص هذا الكتاب هي شاهدة على الفظائع التي ارتُكِبَت في حقّ كل من لم ينحز للسلطة، أو لم ينخرط في حزبها الحاكم هذا “التجمع” الذي صار عيوناً مفتوحة على كل من لا يعلن الولاء العلني والخفي للسلطة الجبرية، بمن فيهم التونسيين  غير المنتسبين إلى “حركة النهضة”، إبان حكم “بن علي”، وشاهدة أيضاً على التّهَم المجانية التي كانت تُفصّل على القِياس، وتوزع تحت لافتة القانون بالمجان لنشر الرعب والخوف.

ثنائية الذكرى والألم

ينطوي الكتاب على عدّة محطات تسجل بالتواريخ والأسماء والأمكنة، الممرّات المظلمة والأحداث المؤلمة التي تعرّض لها صاحب الكتاب، المتجول بين سنوات السجن وأعوام المراقبة الإدارية. حيث اختلف الوضع وتحوّل إلى النقيض. فالمكان المغلق في السجن الذي كان مصدر الاكتئاب والملل, أصبح مصدرا ً للراحة من ضغط المدينة البائسة الميتة, “فمراد” شعر بالانقباض والحزن عندما رأى بؤس المدينة, ” أحسست بالغربة…أحسست بالفاقة في كلّ شيء” ص. 125،  وفي هذه المحطة اقتصر سرده على التقاط ومضات معتنية بذاك المجتمع العذري الذي خلفه وراءه قبل السنوات العجاف، واستعادة ذكريات الصبا الصاحية من خلف الوجع المستمر, مدوّنا تساؤلات انفعالية عن ثنائية المكان المفتوح في المجتمع، والمغلق في السجن، مثل ما في هذه الجمل:

“يناديك أن تخرج… تحزم حقائبك لترجع… لكن أين ستذهب أنت لا تملك هويّة ولا تملك أرضاً تذهب إليها… تتساءل هل خرجت حقاً، أم أنت في سجن أكبر” ص.126 و127.

لم يحس “مراد”  بذاته إلا عندما قرّر الجمع بين تأملات السجن، وضروريات المجتمع، فقرّر أن ينطلق بمشروع “تربية الدّجاج والأرانب والنّحل” ص. 125، الذي تعلّمه أثناء اعتقاله في السجن من العم “يوسف الحيّوني”.

لوحة الغلاف انتصار للكتاب

حين نمعن النظر في  الصورة الأولى لغلاف الكتاب، نقرأ من خلالها أنها عبارة عن لوحة منقسمة إلى جزأين منسجمين من حيث الأبعاد الهندسية التي تحكمها المقاييس والأحجام، وتناغم الألوان القاتمة للسجون، والتي تُشعر الناظر إليها فوراً بالاكتئاب والضجر والملل بوصفها مكاناً مغلقاً معبأ بالخوف والرعب، تفوح منه رائحة الإجرام والحقد والعار والاستبداد.

فهذه اللوحة التي صممتها دار “ميّارة غرافيك بالقيروان”، تدلل بشيء من الوضوح  أنّ المصمم قد قرأ جيداً نصوص الكتاب قبل الانجاز، ليأتي التصميم جزء من مضمون الكتاب، وليس منسلخاً عن بنية النصوص، فسكون الألوان والتفاصيل التقليدية للسجون تتحوّل في هذه اللوحة إلى حركة أظهرت أسلوب السرد الذاتي المنشور في الكتاب.

رسم يستدعي الوقوف

في الجزء الأعلى من اللوحة نرى ممراً ضيقاً مستطيل الشكل تتوزع بقع الطلاء الباهتة على جدرانه، وتخترقه الشروخ من الأعلى إلى الأسفل، مما يعزز المخاوف في خيال المشاهد من هذا الممر الرهيب.

على يمين الممر نرى صفاً من الأبواب الصغيرة من دون فتحات صغيرة للتنفس، ومحكّمة الأقفال ليبدو الممر وكأنّه كان فيما مضى إسطبلاً للخيول, أو أنه قد تعرض لزلزال مدمر أفنى كل اثر للحياة.

في الجزء الأسفل من اللوحة تظهر غرفة جدرانها من المكعبات الإسمنتية السوداء الضخمة الشاهقة، تتوسط هذه الجدران نافذة وحيدة، صغيرة وكئيبة، تظهر فوهات بيضاء ناعمة في زرقة خفيفة تُدخل الشمس من بين قضبانها الغليظة الصدئة، لتربط الخارج بالداخل، وتحت هذه النافذة الصغيرة التصقت بالجدار شبه طاولة صغيرة من الإسمنت لا معنى كبير لها إلا لكونها تقع: ” على رأس الغرفة وتسمّى…”الصدر”…بها من قتل، ومن اغتصب، ومن الزّطلة دخّن، وحتى بالفاحشة اعتدى على فلذة الكبد”. ص.29. 

عندما ينطق بالرعب المكان

أرض الغرفة مرصوفة بالحجارة السوداء المشققة، ونرى عليها سريراً عسكرياً متهالكاً وضع عليه فراشاً صغيراً مهترئاً، ولحاف بسيط شبه صوفي مخطط بالأبيض والرمادي” يطلق عليه “بالمحكية” التونسية العامية “زاورة”, وبين زاويته وعاء وهو بمثابة مرحاض، وقد وصف “مراد ” تلك الغرفة بما يلي: ” كانت الغرفة تمسح قرابة عشرين متراً مربعاً وبها مرحاض في أحد الزوايا دون باب “،ص.34، ويخبرنا أيضاً، أن أحد السجناء المدعو “سعيد” وهو من أصحاب القلوب الطيبة والبنى الجسّدية القوية، أنّه كان:

“عندما يدخل المرحاض نغلق أنوفنا، ونصرخ صُب الماء يا سعيد، وكان يضحك ولا يبالي، وكنّا نضحك ونعذره ونسامحه ونحبه  ونرضاه  رغم الأذى” .ص. 36.

التصميم جزء مكملاً للكتاب

 ما يمكن استنتاجه من خلال هذه اللوحة, أن المصمم نجح في رسم نموذجاً عن الغرف الصغيرة التي كان يحتجز فيها “مراد”، وغيره من التونسيين, وقد رسمها رسماً موضوعياً كشف فيه الأبعاد النفسية والاجتماعية والقانونية للسجناء إبان حقبة “بن علي”.

والأجواء الفنية للوحة الغلاف الأول امتدت بلمسات تقنية إلى الغلاف الأخير بحيث أظهرت قضبان غليظة متشابكة عمودياً وأفقياً تجسّد الباب الداخلي للسجون، وأرى أن النص المركون على كامل صفحة الغلاف قد شوه اللوحة، واعتدى على مضمون ابعاد الصورة، إنما لو بسطنا الغلافين معاً أمامنا، لوجدنا أن اللوحة بشكل عام، تصوّر السجن كمكان كئيب، عليل، غير صحي، عديم التهوية، قليل الماء، وجدرانه من غير نوافذ لتطبع الخوف في نفوس السجناء، وكنذير شؤم وعلامة احتجاج ضمني على ممارسات السجّان، وأستطيع القول إن المشاهد لهذه اللوحة الممتدة على الغلافين لم يعد ينقصه سوى سماع أصوات رنين السلاسل والقيود الحديدية، وأنين السجناء حتى يشعر بجدران السجن تحاصره وتضغط على أنفاسه.

الإهداء اعتراف ووفاء

في افتتاحية الكتاب أهدى “السجين السابق مراد العوني العبيدي” كتابه لمجموعة أشخاص، مثمناً جهودهم التي بذلوها لإخراج كتابه إلى النور، وقد خصّ بالذكّر، “السيد عمار عبد الله الذي سهر الليالي الطوال وجمع الكلمات، والسيّد محمّد كمال الحوكي الذي راجع الكتاب عديد المرّات، وكان رفيقي إلى آخر مشوار الطباعة والنشر”.ص.7.

مقدّم الكتاب أضاف رونقاً للكتاب

جاءت مقدمة الكتاب بإمضاء الأستاذ “محمد كمال الحوكي”، فكانت إضافة مشعّة تعبّر بلغة أدبية تمازج فيها الأدب بالسياسة بالفكر، تحت سقوف أسئلة حرجة وتهويمات تترجم بعيون متمكنة من رصد شراكة الأوجاع، وقدرة على التعبير في الاختصار والتعبئة، وتهيئة القارئ قبل استدعائه في جولة إلى مغاور، وكهوف ودهاليز السجون التونسية بكل تفاصيلها،  وقد نجح مقدّم الكتاب بالاعتماد على استناده إلى سلاسة اللغة، وجمالية التعبير، وقدرته من خلال الوصف الدقيق، وامتلاكه لتقنيات اللغة من جلب اهتمام القارئ كي يستضيفه دون إكراه، من أجل العبور والولوج في أعماق الكتاب حيث يترجم ذلك بالقول:

 ” أحسست بالكتاب قبل أن أقرأه”،ص.6.

تصريح أم تفسير ؟

يمكننا هنا الاستنتاج بأن هذا التصريح نابع من شدّة تأثره بما حدث “لمراد” أو أنه عايش نفس الأوجاع سواء كان سجيناً هو الآخر أو خارج الأسوار، او شاهداً على حالة الدمار السياسي والرعب السلطوي. ونعتقد رغم عدم معرفتنا المسبقة بالأستاذ “الحوكي” مقدم الكتاب أنه شريكاً في المحنة، إن لم يكن أحد القيادات الطلابية. فتوقيعه في ناصية الكتاب بهذه التعبئة يدل على أنه من الكوادر، ولم يكن بمعزل عن الحدث.  

التصنيف بين الحقيقة والوقائع

في أحد مقاطع صفحة تقديم الأستاذ “الحوكي” محاولة منه لتصنيف كتاب “مضايا صراع الذاكرة والجدار” حيث يقول :

“…أراه كتاباً وإن كان يندرج في أدب السّجون إلا أنّه غير عاديّ، ففيه من الذّاكرة وقد مرّ بكل فصول محرقة التّسعينيّات ما يكفي ليكون كتاب تاريخ وذاكرة، وفيه من الألم الشّخصي والأخبار المتعلّقة به ما يكفي ليكون سيرة ذاتيّة، وفيه من المأساة ما يجعله يكون أدباً”.ص.6.

وهنا تتراصف في الذهن بعض الأسئلة المشتعلة، تعقيباً على دقة المعاني والمصطلحات التي استنجد بها السيد “الحوكي”  لتصنيف الكتاب، هل يندرج ضمن أدب السّجون؟ أم  سيرة ذاتية؟ أم وثائقي فما هو المفهوم العيني والمجازي لمعنى أدب السجون؟  

فهل يقصد السيّد “الحوكي” الأدب الذي اتخذ من عالم السجن مادة له، أم الذي كتبه سجناء؟ أم الذي كان أبطاله معتقلين؟

فهناك أدباء كتبوا نصوصاً عن السجن دون أن يسجنوا يوماً واحداً، وهناك سجناء لم يكونوا أدباء أصلاً، ولم تكن لهم قبل دخولهم السجن أية صلة بالكتابة، إنما بسبب سجنهم انخرطوا في الكتابة، وأصبحوا من أبرز الذين عبروا عن التجربة شعراً أو قصة قصيرة أو رواية أو خاطرة.

فأين يرى الأستاذ “الحوكي” موقع السيّد “مراد العوني العبيدي” بين هؤلاء الكتّاب؟ وهل في نظره اليوميات تندرج ضمن أدب السجون التي هي مدرسة تعبر عن كينونتها، وليست حديثة الانبعاث بل هي منتشرة في تراث وثقافة العديد من الأمم ولم تنضب عطاء هذه التجارب بانتشار الظلم الذي لم ينقطع ولم يجف منذ وجود الإنسان على الأرض. وبالتالي فنرى أن كتاب “مضايا صراع الذاكرة والجدار” يراوح بين اليوميات الشخصية وبين التأملات الفردية، وبين رصد بعض الأحداث، وهو خلطة حاولت أن تنفث زفرات الشخصي لتنشره على الملأ فيختلط الذاتي بالعام، ضمن مرحلة زمنية معينة، دون ولوج للمحيط السياسي والاجتماعي ، ودون تحليل عميق للمناخ والإطار، ما يجعل الكتاب منحازاً لرصد تجربة سجنية بما تحمل من معاناة فردية، دون أن يكون منتمياً لأدب السجون كما حاول السيد “الحوكي” تردداً تصنيفه أوترتيبه، حيث أن جزء كبيراً من العناصر المؤسسة لهذه المدرسة غائبة.

الكتابة نقش أو لا تكون

في إحدى السطور الوجدانية بعنوان “قلمي” كتب السيّد “مراد العوني العبيدي” عن علاقته بالقلم والكتابة، ما يلي:

“قلمي نضب القرطاس منّي ومنك، فصرت كالعصفور ينقر على جذوع الأشجار، فيكبر الوشم ويقوى دون أن يمحى، ودون أن ينضب”.ص.16.

هنا يعترف “مراد” أنّه استل قلمه من بين مسامير جحيم سجنه ومن بين سواد الظلام الدامس، ليحاكي واقعه، وحياته الجديدة، ويغمسه في الوجدان “على جذوع الأشجار، فيكبر الوشم” ليصوّر تجربة الأسر والمعاناة اليومية، ويسطر ملحمة الصمود والتحدّي والبطولة، عبر نصوص لا أصدق ولا أعذب ولا أجمل منها، وقد تميّزت الصفحات التي تتحدث عن مرحلة الاعتقال بصدقية الوصف والعفوية والرمزية الشفافة والصور الإيحائية، وسلاسة اللغة وحسن التعابير.

وكانت“لنقراته على جذوع الأشجار” قيمة جمالية تلفت الانتباه للجهود المبذولة التي سعى فيها “مراد ” أن يبرز مدى الغنى الذي تتميز بها اللهجة التونسية “المحكيّة”، فلم يستعملها لوصف واقع المساجين فقط، بل لنقده بهدف تغييره، وقد استفاد من تقنيات تلك اللهجة التي وظفها بمهارة في نصوصه، سواءً من خلال تنويعه في الأساليب، أو تقطيعه للعملية التوثيقية في بعض الفصول.

 ويبقى الملفت للانتباه في هذا الكتاب هو العفوية في سرديات الألم والالتحام بالأمكنة، وإعادة إنتاج عناوين التحدي والصمود من تحت ركام القهر ومحاضر التحقيق، والتأملات المبطنة أحياناً والعلنية أحياناً أخرى، وتقمص صاحب الكتاب لدور الراوي الرئيسي لتحريك الإحداث، وتفعيل عدسات الرصد والتصوير، من زاوية المتأمل والمنخرط حسياً ومادياً ووجدانياً في المحنة، وليس من زاوية سجين سياسي حزبي يدّعي البطولة ! ليخرج الكتاب شراكة عمل ثلاثية الأبعاد بين المؤلف والمقدّم والمصمم.

———-

*عضو ب “المركز الدولي للتواصل الإنساني”

باريس

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.