الرئيسية | منبر الموجة | أحمد بوزيد | بريد الكائن

أحمد بوزيد | بريد الكائن

أحمد بوزيد

إلى أطفال

أيها الصغار، رأيت في عيونكم  نعاس الصباحات و شممت رائحة الفجر والأمهات المقيمات في الجبال البعيدة، رائحة حطبهن، شممت رائحة الحنين، تتخذ شكل سرير مبعثر في قسم  داخلي،  رأيت المطر و الأزهار، رأيت الغد الأتي  كما أشرعة ربابنة، رأيت أياد كثيرة تمتد إلي و أنا أغرق في بركة ضجر، حكينا سير الأبطال الذين يحبون الزيت و الخبز،  تحاشينا برد الطرق السالكة، وتدفأنا باستعارات ميتة، وحين لا تغري النصوص نتدرب على رؤية الجمال خلف ركام البلادة، لقد فعلنا ذلك وكان أسهل من شرب الماء، ثم قلنا  كلاما كثيرا عن الوقت، وعن علامات الترقيم، عن الحمل التي   أتذكر لحظاتنا الأولى في سبتمبر، حين ضحكنا من حكمة  سائرة، النهار الأول يموت المش، فعلنا ما بوسعنا لتستقر الحكمة في كرسي ولتنام فقد أهلكها السير و علاها الغبار، قبلناها حتى بدون وزرة بيضاء، قبلناها بدون ورقة تأخر، وبدون دفتر مدرسي بغلاف أزرق، ونكاية بالتنورة القصيرة التي ترتديها البيداغوجيا بدل قشابتها الواسعة، وبخناها، أقصد وبخنا الحكمة السائرة، حتى   أنها خجلت من الأيادي الناعمة التي لن تحتمل العصي، و القلوب الصغيرة التي تنبض ببطء ولن تطيق الصراخ الزائد عن الحد بسب تعليق يأتي من الخلف،  الدفاتر التي دخلت من الباب ولا بد أن تغادر من الباب أيضا بلباقة لا أن تغادر من النافذة، كنا نأمل أن  تأخذتها سنة في الركن، لكنها نهضت متعللة بشيء طارئ  غادرت بسرعة خاطفة كسرعة ذهاب المرأة إلى المرحاض للقيء حين يأتيها الحمل، وضعت يدها على فمها، سقطت بعض أسنانها وهي تجري، كان يبدو أنها منذورة للسير كبدو رحل،  غير أننا تركنا القطة الوحيدة  لتؤنس الريح التي تعوي في الأزقة، أيها الصغار صدقا إني مدين لكم بثلاجة من قيتامينات الأمل وببطارية مشحونة من الرضى و ثلاث درجات من فرح  مشاع كويفي المقهى،  لكن  ما ذنب القطط بالذات في الحكاية،  وما ذنبها لتموت هكذا، في اليوم الأول دائما، يا لتعاستها.

2

إلى أصدقاء

لقد تعلمت  منكم أشياء كثيرة، قرأت  كتبكم  بعد أن اقتطعت ثمنها من رغيفي اليومي ، احتضنتها مثل وديعة ورعيتها بما أملك من محبة، وحين كنت أهم لأغادر صحراء زاكورة حاملا حقائبا، داهمنا الوادي قرب تازناخت في نهاية سبتمبر، ولم تعد الطريق سلسة،  خلعت جاكيطتي وغطيت بها بناتكم، أقصد بنات أفكاركم، لا أشبه حاتم الطائي، حتى لو كانت لي شاة فأعواد الثقاب أصابها البلل، أثرت  أن يلسعني البرد على أن يرتعد أطفالكم في الحقيبة، غدوت  بعدها نزلا للسيد البرد أياما طويلة، وحين قصرت اليد كنت أقتسم مع أطفالكم المشاكسين غرفتي، صديقي محمد تايشينت كان شاهدا على تلك الأيام،  قدرت جهدكم وأنتم تسهرون الليالي لتبنوا لنا أعشاشا نأوي إليها كلما أتانا الضجر وغشى الضباب المسالك، تخليت عن أحقاد الذاكرة بعدما تيقنت وبفضل الإقامة العابرة بين أعمالكم أن الهوية تشبه لوحات الطفولة حين كنا نرسم بابا والعلم فوق القمم و الوطن بالألوان، نستعير من بعضنا البعض الممحاة و المنجرة والأفكار أيضا، كنست عن القلب شهوة الرعاة،  كنتم صادقين وأنتم تكتبون عن الشخوص التي تراود المخيلة، وأنتم تخلقون كائنات شعرية، وأنتم تخبون بالقصص في البعيد، غير أني  تحملت كتابكتم لقصة طويلة عن فستان أو رجل مقعد أو حليب العصافير أو مسمار في طاولة،  روايتكم الطويلة جدا عن أقدام نملة أضاعت خطواتها أو عن تنورة سرقت في السطح، كتبكم  المسترسلة عن النون عند ابن عربي ومحاضراتكم عن  الياء عند النفري وعن تاريخ العقم في العصر الوسيط وتاريخ النعال عند شعوب المايا، الاستفاضة الفجة في تدبيج الأوراق عن وجود معنى في بياضات الشعر الكاليكرافي ربما لتدريبنا على تأمل خرسكم  يوما ما كاختيار جمالي لا غير.  حديثكم عن خلع الضرس بملقاط الأهون من تدبيج بيت شعري، وعن الإلهام الذي لا يأتي إليكم  في النهارات بسبب السيركيلاسيون، عن الإشراقات التي تتمنع،  لكن ألا يستحق ما يقع فقرة أو  جملة ما،  جملة عن هذه الصور الكثيرة المتناثرة في كل مكان، هذا الدم الأصفر الذي يجري في العروق بسبب ناموسات أنيقة تصنع من العظام قلادة، هذا الدم المراق،  هذه الكوميديا البائتة قبل الإفطار،  هذه الحبسة التي تعتري أطفال المدارس عندما يقرؤون رسالة، هذه الأشياء  الواقعية جدا، هذا الحزن المتاح، هذه العيون الشزراء، هؤلاء الذين فقدوا الوجهة …

3

إلى عاطفة صادقة

شيء جميل أن يأتيك طفل في مقتبل الحياة بنص كتبه عن إحساس نادر اعتراه في لحظة ما، أحدهم كتب أن الحب يشبه المطر، حتى أني شممت رائحة الأرض، ونسيت أن الناس يموتون بسبب البرد وغياب البيتادين في المستشفيات، يقع لي هذا منذ خمس سنوات، حتى أني أتنازل عن حصتي من الشاي بالأعشاب، لكنهم يطالبونني دوما بإبداء ملاحظات ما، بالأحمر طبعا، وحين أعيد إليهم أوراقهم بيضاء بلا بقع الأحمر، لا يعودون مرة أخرى، يعتقدون أني لم أقرأها، أتخيلهم يلعنوني في مكان ما، أتخيلهم يكرهون الشعر إلى الأبد، أو يضعون الأحمر على شفاه نزار قباني في الكتاب المدرسي، نكاية بالجميع، المسألة واضحة والأمر ليس عصيا على الفهم، أنا لست قاسيا إلى هذا الحد؛ لأشحذ الأقلام كما سكاكين في وجه عاطفة صادقة.

4

إلى قارئ

أما تزال تتوهم أن الشاعر يجلس منتظرا طوال الليل في شرفته الإلهام كي يكتب قصيدة ويرتشف الكثير من القهوة السوداء ويدخن علبا كثيرة من السجائر، تلك الأشياء لن تولد شعرا يا عزيزي، قد تسبب مغصا أو نزلة برد أو سعالا حادا، السماء انغلقت منذ قرون بعيدة، وأكذب الشعراء يعرفون ذلك، السماء لا يسقط منها إلا الثلج و المطر والبرد والرصاص والنيازك والذين ينتظرون ذلك لا يحملون في اليد أوراقا وقلما.

5

إلى حياة

لو أولد مرة أخرى، أغدو فلاحا في قرية مهملة وسط غابة، أزرع الورد في السفوح، وأعيش على الأعشاب البرية وسمك النهر، لست بحاجة لهذه المعادلات الكثيرة التي تغمر الرأس، ولست بحاجة لأعياد الميلاد ولا لساعة على الجدار ولا للشعراء، الشعر حينها أسمعه من المياه التي تمر جنب بيتي، كمن يشرب حليبا دافئا من ضرع بقرة، أمنيات بسيطة، غير أني كلما طلبت منك شيئا أيتها الحياة رفعت في وجهي جيوبك الفارغة.

6

إلى سعاد

الكتابة إليك ليست أمرا سهلا، كأني أكتب إلى بحيرة زرقاء في الدواخل، تحرس الطفل الذي كنته؛ دهشته على الخصوص، على أني بدوي يغمره الخجل، حفيد البرابرة الجميلين الذين وطنوا الحب في جغرافية الكبد، حسنا القلب في عرفهم مجرد مضغة تضخ الدم في النسوغ، ثم إني يا عزيزتي متعب و أود لو أستريح، متعب من الكهوف و من المياه التي اندلقت إلى القارب، من هذه اليد القصيرة التي تضاءلت أكثر، من هذه الأحذية التي أحرقناها في الساحات، متعب من نظرات  القوات المساعدة، أود لو نجلس قليلا لننقي أقدامنا من الأشواك، أن نرمي هذه البوصلة التي أصابها الجنون ولا تفضي بنا إلا إلى حائط، أو أجراف، لكن قبل ذلك أعترف لك أني لست حديثا بما يكفي، لست ريحا كي أطفأ الشموع في منتصف الليل، ربما أنفاسنا رحيمة حتى مع النيران، وحبنا كما رضيع تؤلمه الأضواء،  أحيانا يبكي لأسباب غامضة، أحيانا يضحك إلى ملائكة.

7

إلى نفسي

إنها أمامك، هاته التي يسمونها حياتك، كقصيدة نثر كتبت على ورق أصفر منقوع ببقع شاي ، كتبت بنفس شاعر مسافات طويلة، جمل كثيرة تكررت وسرد باهت كتبته خطاك غير الواثقة وهي تمضي إلى القاعة نفسها في الثامنة صباحا، وحين تفعل الأشياء نفسها بالشكل نفسه، حين لا تنتظر أحد ولا ينتظرك أحد، حبن لا تسعفك بلاغتك لتمنح يدا للريح، في منتصفات نهار كهاته، تقرأ حياتك بندم وتنصت لعظامك، الموسيقى الوحيدة التي تصلح لتكون خلفية لأيامك البالية.

8

إلى 2017

لم أجد سببا واحدا للاحتفال، أيتها السنة الشبيهة بسكين حاد كما يشي بذلك اسمك، أنا قروي كان يسكن في بيت طيني أيامه متشابهة وحارقة كأعواد ثقاب، ماضية كنهر. …
لست أنانيا لقد أحضرت الحلوى و ووردة حمراء وعطرا لحبيبتي، رأيت في ذلك المكان أطفالا يرسمون على وجوههم بأصباغ، سمعت أغان كثيرة،رأيت رجالا يصعدون من الدرج يهمون بإخفاء شيء ما تحت الإبط ويسيرون بخطوات واثقة، الشيء الذي سيحكي بدلهم، السارد الذي سيثرثر كثيرا حين يرسخ قدميه في صحراء أرواحهم، أحرجت الباب الأوتوماتيكي مرات، وغادرت، وجدت ذلك مسليا.
رتبت الأشياء بعناية على الطاولة و أزلتها بعدما تواطئنا بنظرات، تفهمت الأمر وضحكنا بصوت عال،لم نظفر بالمعنى، و يبدو لي أن إشعال شمعة وإطفاءها بعد ذلك في منتصف الليل فعلا عبثيا، يشبه دعوة مصور لرسم ابتسامة على الوجه قبل التقاط الصور؛ النطق باسم مدينة أو بحروف بعينها، يبدو لي أن التهام حلوى دون إحساس بالجوع بلادة زائدة عن الحد، يبدو لي أيضا أن السيد السبت ليس غبيا كي يفتح لكل هؤلاء الواقفين على بابه اليوم بالذات، السيد السبت رجل ولن يخون الذين كان يجلسون في سطوانه على الدوام، يبدو لي أن العالم يحتاج إلى أن ينام عميقا عميقا.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.