الرئيسية | أدب وفن | أحمد الصفريوي هل سيبقى مختفيا في صندوق العجب؟ | عبد الرحيم الخصار

أحمد الصفريوي هل سيبقى مختفيا في صندوق العجب؟ | عبد الرحيم الخصار

عبد الرحيم الخصار

 

     في أرشيف “لوفيغارو”، وتحديدا في الزاوية المخصصة لسير مشاهير الأدب والفن التي يتصدرها مارسيل بروست تصف هذه الجريدة العريقة التي تأسست سنة 1826 الكاتب المغربي الراحل أحمد الصفريوي بأنه “ظل حتى مماته كاتبا كبيرا بقلم أصيلٍ ومبتكرٍ قادر على خلق بؤرة حقيقية للانصهار الثقافي”

    لكن الخانة التي تندرج تحتها سيرة الصفريوي تحمل عنوان “أدب فرنسي/ Littérature française“، ويكفي هذا التصنيف ليعيدنا إلى سؤال كان قد شغل المغاربة لفترة: هل ما كتبه الصفريوي وادريس الشرايبي ومحمد خير الدين وعبد اللطيف اللعبي والطاهر بنجلون وغيرهم “أدب فرنسي” كتبه مغاربة أم “أدب مغربي” مكتوب بالفرنسية؟

   ربما لم يعد لهذا السؤال من معنى الآن، فالأساس والأهم هو الأدب وليست لغته، لكن يبدو أن تصنيف لوفيغارو لمنجز الصفريوي في خانة “الأدب الفرنسي” فيه نوع من التقدير، فالأوساط الثقافية في باريس غالبا ما تضع ما يكتبه غير الفرنسييين بالفرنسية في خانة “الآداب الأجنبية”.

    لم يكن الطفل أحمد ابن الطحان البسيط في حيه الشعبي القديم بمدينة فاس يعرف أنه سيكون اسما بارزا ومرجعا أساسيا في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، التحق بدايةً بالكتّاب لتعلم القرآن، لينتقل بعدها إلى مدرسة فرنسية مغربية، حيث سينفتح على ثقافة أخرى وعلى لغة جديدة سيكتب بها لاحقا عمله الأول “سبحة العنبر” الذي سيحظى كمخطوط ب “الجائزة الأدبية الكبرى” سنة 1947، ليكون بذلك أول مغربي يتسلم هذه الجائزة، وسينال بعدها جائزة الأكاديمية الفرنسية في 1949، وجائزة رئيس الجمهورية الفرنسية في 1953 وغيرها. بالموازاة مع مساره الأدبي عمل الصفريوي في الصحافة، وانشغل أكثر بالتراث حيث أدار متحف الضحى، وأسس متحف البطحاء، وصار في ما بعد مسؤولا عن المتاحف والمباني التاريخية بالمغرب، كما شغل مناصب مختلفة في وزارات الثقافة، التعليم والسياحة.

    اليوم تمر اثنتا عشرة سنة على رحيله، وتمر بالمقابل اثنتان وستون سنة على صدور روايته الشهيرة “صندوق العجب” التي خلفت وراءها مساحة هائلة من النقاش جمعت بين الاحتفاء والنقد.

    تسرد الرواية الكثير من التفاصيل والمشاهد بعين طفل يلازم أمه كثيرا، يتردد معها على الحمّام الشعبي، حيث ينقل للقارئ دهشته من منظر النساء العاريات وسط بخار الحمّام، ينقل أيضا ما كان يقع في منزل الشوافة/ العرافة وما يدور من أسرار في جلسات النساء،  يكشف عن عدم تحمسه لحفظ القرآن، ويصور المسيد/ الكتّاب بشكل كاريكاتوري يتحول فيه الفقيه من القسوة إلى الطيبة كلما اقتربت عاشوراء، المناسبة السنوية التي ينتظر خلالها الهدايا والأعطيات.

     يشعر الطفل سيدي محمد أنه مختلف، فهو يؤمن على عكس أقرانه بعالم الماوراء، تجذبه أحاديث الوالد والبقال عن الجنة والنار والمخلوقات اللامرئية، يتعقب في الآن ذاته حكايات الواقع والخيال، وحين يتعب أو يحس بالملل يعود إلى لعبته الأثيرة “صندوق العجب”، اللعبة التي ستصير عنوانا للرواية، وتصير معها المحكيات الشعبية هي محتوى هذا الصندوق العجيب.

    يعلل الصفريوي اختياره للطفل كراوٍ للأحداث بما كان يطبع الحياة المغربية من تحفظ وتستر بخصوص تفاصيل المرأة داخل البيت،  لذلك كان الطفل هو الوحيد القادر على الولوج بيسر إلى عالم النساء ومعرفة ما يدور في جلساتهن، والمؤهل لأن يعطينا كقراء نظرة عن الحياة النسوية بمغرب العشرينيات.

       عدد من النقاد والكتاب، سيما الذين وصلوا إلى أرض الكتابة بعد الصفريوي، كانوا يرون أن رواياته لم تكن موجهة للقارئ المغربي، بل لقارئ آخر، وهذا ما سيجعل تهمة الفرنكوفونية أو المسحة الفولكلورية لصيقة بمنجز صاحب “بيت العبودية”. إنه “كاتب إثنوغرافي” حسب ما يراه الكثيرون، فقد ركز على العادات والتقاليد المغربية والتفاصيل الفلكلورية كفضاء للكتابة وكمحتوى لهذا الفضاء، متبرما بالمقابل من أي موقف ضد الاستعمار الفرنسي.

    وربما توقف الصفريوي عن النشر مباشرة بعد استقلال المغرب سنة 1955 يزكي هذه التهمة، فبعد “صندوق العجب” 1954 لزم الرجل الصمت طيلة 16 سنة، وانتظر إلى سنة 1970 ليصدر “أن تحلم بالمغرب” وبعدها “منزل العبودية” في 1973، تلتها أعمال أخرى. عزا الكاتب ذلك إلى ضيق الوقت بسبب انشغاله بمهام إدارية، لكنه لمّح إلى أن الطفل الذي كان يسرد أحداث “صندوق العجب” تحول إلى شخص آخر في “بيت العبودية” لأسباب سياسية واجتماعية، مشيرا إلى “الفكر الجديد” الذي صار يحمله بعد الاستقلال.

    في برنامج تلفزيوني قديم سيردّ الصفريوي لاحقا على منتقديه :”كانوا يتهمونني بأني ألّفت كتبا سياحية موجهة للأجانب، كان يلزمني أن أقدم الصورة الصحيحة لبلاد أحبها بدل أن أترك هذه المهمة لكاتب أجنبي قد يتعامل معنا كحيوان يدخله إلى مختبره”.

     طيلة تسعة عقود كان الجميع يعتقد أن الصفريوي هو أول مغربي كتب أدبا باللغة الفرنسية، ويتعلق الأمر برواية “سبحة العنبر” التي صدرت سنة 1949 إلى أن خرج على الناس رئيس المنتدى الثقافي بطنجة أحمد الفتوح برواية مهملة لكاتب مغربي مغمور اسمه عبد القادر الشاط صدرت سنة 1932 بعنوان “فسيفساء باهتة” ضمن منشورات “المجلة العالمية”، ألفها الرجل وهو في السادسة والعشرين من عمره، وتحكي رواية الشاط أو “منسي طنجة” كما صار يعرف لاحقا عن مغرب العشرينيات من القرن الماضي بأسلوب سردي يغلب عليه الطابع التاريخي والاجتماعي، و يبرر المقربون من صاحب “فسيفساء باهتة” غياب هذه الحقيقة عن الأوساط الثقافية بالمغرب وفرنسا إلى عزلة الرجل وزهده وموقفه الحاسم من الاستعمار.

    لذلك ظل الصفريوي هو الرائد طيلة تسعين عاما، هذا ما يمكن أن يجده القارئ في المؤلفات النقدية والأنطولوجيات التي تعنى بالأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، إضافة بالطبع إلى المقدمات والتحاليل المتنوعة بالمدرسة المغربية، فروايته الشهيرة “صندوق العجب” مدرجة منذ سنوات ضمن البرنامج التعليمي بالمدارس الثانوية.

    بغض الطرف عن ذلك يبقى الصفريوي المعلّم الأول في تاريخ الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، فعدد من الأعمال التي نُشرت في ستينيات القرن الماضي تأثرت بطريقته في الكتابة، وحتى الذين سعوا إلى تجاوزه تعلموا منه كيف يقاطعونه، لقد كان يمثل بالنسبة لهم شكلا أدبيا ينبغي أولا فهمه ودراسته من أجل معرفة طريق الاختلاف عنه.

    العام الماضي حلت مئوية أحمد الصفريوي (مواليد 1915). لكن لم ينتبه المغاربة إلى هذا الحدث.  لم يحتفوا بالرجل على غرار ما يقع مع كتّاب البلاد التي اختار أن يكتب بلغتها. هل سيبقى الصفريوي مختفيا في “صندوق العجب”؟

الصفريوي على يوتوب : هنا

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.