الرئيسية | سرديات | أحلام هديب | محمود الرحبي

أحلام هديب | محمود الرحبي

محمود الرحبي (عمان ):

 

لم يكن في تلك الحارة، الممتدة بيوتها كعلب صدئة على حواف الجبل، شيء يشغل أهلها، أكثر من حصول المواطن هديب فجأة على سيارة جديدة، من ذلك النوع الذي لا يمكن إلا أن يهيج أحلام شباب تلك الحارة ويثير حنق أهلها.

كان الحدث يستعر كالفضيحة بين فضاءات الحارة، وما الأحاديث التالية التي أنثرها مبعثرة إلا بعض ما استطاعت أذناي التقاطه في مواقف متقطعة لا يجمعها سوى سياق واحد وهو أن هديب لم يجد اهتماما في حياته مثل ما وجده الآن، فبدا الأمر وكأنه كان يخطط لذلك منذ زمن طويل في عزلته وينسج في الظلام خيوطا لا يراها غيره:
.(هديب يشتري سيارة)، (وسيارة من هذا النوع)، (أوه. هديب، أليس هذا هديب) انحنى أحد الشبان على أذن عجوز أصم، لوى إحدى يديه ثم ألصقها في فمه، وقرب كل ذلك فوق صحن الأذن الساهية وهتف:

هديب لديه سيارة من ذلك النوع الغالي
ـ لا أسمعك
ـ هديب. هديب. اشترى سيارة كبيرة من النوع الغالي
ـ من هو
ـ هديب. هديب. هديييييييييب
ثم اقتربت امرأة من جارتها السابعة:
ـ هل تعرفين ماذا حدث؟
ثم تحولت إلى منزل امرأة أبعد
ـ من أين جاء بالمال؟
ـ هديب لا أحد يعرف له أمرا. ساكت وناكت

عندما تحل الظهيرة، ويعود الموظفون ساحبين أجسادهم إلى بيوتهم، في تلك الساعة المليئة بالحافلات والأقدام، يتعمد هديب أن يوقف سيارته على مدخل الحارة، يفتح نصف الزجاجة وقد صر رأسه باتساق، ورش بودرة بيضاء على وجهه، ورفع رقبته عن آخرها. كان كل داخل إلى الحارة لابد أن يذهن إلى تلك الوقفة الغريبة، كان كل داخل مهما كان به من تعب لابد أن يلتفت إلى تلك السيارة الواقفة بفخر على بوابة الحارة.
وفي المساء يعبر أمام جلستنا المنكمشة حول أوراق لعب، تزداد الحماسة فيها كلما ازداد عدد لاعبيها، وكان عندما نكون مشدودين إلى حرارة تلك اللعبة، يضطر إلى تنبيهنا بقدومه بأن يطلق زمارة سريعة من سيارته، ثم يرفع إحدى يديه بخفة، ويفرج عن ابتسامته التي لاتلبث أن تختفي عندما تقتحمها تكشيرة غريبة تلوح برأسه إلى جهة أخرى.

كنا عندما يرفع هديب أصابعه لتحيتنا، نستدير في جلستنا ونرفع أيادينا عن آخرها، ويعلق بعضنا في الهواء نكاتا يستحيل أن تصل إليه، لأنه يكون قد أعطانا مؤخرة سيارته، وتوارى بها خلف البيوت القليلة، التي تصطف كالعلب الصدئة، محلقة في الأطراف، فوق النتوءات الصخرية وسفح جبل ينبطح تحتها باستسلام وهدوء.

لا يوجد لسيارة هديب موقف تستريح فيه، كما يجب أن يكون للسيارات الفارهة، التي يحتويها عادة مرآب تتسلقه الزهور وتسطع منه الألوان، وذلك لأنه لا يملك سوى غرفة خشبية صغيرة تطل من سفح الجبل، تحيط بها ثلاثة براميل قمامة، لا ترى إلا ممتلئة، لذا يبقى هديب مستيقظا إلى وقت متأخر، متأملا من خشب نافذة غرفته في الهيئة الضخمة لسيارته، تسبح في رأسه الأحلام، والانتشاء بما أحدثته هذه السيارة من تغيير في حياته، وعندما تباغت سحابة النعاس عينيه، يطردها متفحصا هيكل السيارة بحدقة أكبر، كان يفز من نومه على حلم مزعج، بأن لصا غافله ودحرج السيارة بعيدا، أو بأن السيارة تغرق في لجة عميقة انفجرت فجأة تحت هيكلها.

في غروب أحد الأيام خرج هديب متسللا إلى الحارة المجاورة، يؤرجح سيارته في أزقتها وزواياها الضيقة باحثا عن فتاة تنظر بلهفة إليه وإلى سيارته، لكنه انثنى فزعا تتبعه حزمة من الغبار، وقد تلطخ جسد سيارته ببقع بيض وقشر طماطم ناضج.

وفي صباح أحد الأيام، جاءت عمته من حارة بعيدة، بعرقها وفضولها اللذين يتقافزان من جسدها المتعب، جاءت لترى الحال الذي وصل إليه، بعد أن ترامى إلى مسامعها الخبر في طريقه الهائج ذاك، ثم لم تمض ساعة إلا وقد تحدثت عن ابنتها شاتمة الحال الذي لم يعد فيه الخطاب يرمشون لأحد، ففهم هديب الرسالة سريعا، تنفس عميقا من فتحتي أنفه وهو يرفع نظرة زهو إلى سيارته، ثم رفعها إلى فوق سطح السيارة بقليل، ونبس وهو يزفر هواءه بهدوء:

ـ لا أريد أن أتزوج الآن.

اشترى هديب لسيارته الجديدة أشياء كثيرة، عطرا خاصا بالسيارات، منظفا رشاشا للنوافذ، منظفا رشاشا لمقاعد السيارات، منظفا رشاشا للقطع الصلبة في السيارة، سجادة صغيرة مزركشة سمرها أسفل الزجاجة المقابلة لعينيه، دفتر إشارات المرور، دليل الطرق بنيويورك، ملصقة عريضة لسورة الكرسي، ملصقة كتب عليها ممنوع التدخين وعلامة (اكس)، صورة حديثة لهديب وهو يعانق السيارة فور اقتنائها، مبخرة كهربائية، وصورة خاصة للسيارة من الأمام، مبيدا حشريا جاهزا للفتك بأي حشرة تنسل بغفلة من إحدى النوافذ.

ولا يسمح هديب لأي أحد بالصعود إلى سيارته والجلوس بجانبه، وإن قدر لأحد أن يجالسه، فإن ذلك يبقى متجمدا كالخشبة الى أن يصل، لأن هديب يلتفت بحنق إلى كل جزء فيه، ينظر بمرارة إلى حركة رجليه، ومدى نظافة قاع حذائه، ينظر إلى حركة عينيه وكيف تتلمس أشياء سيارته، فيبقى ذلك الراكب بجانبه متجمدا، حابسا عروقه وشيئا من أنفاسه إلى أن يصل.

مرة خزق طائر أمام عيني هديب، فتدحرجت منتشرة في صفحة الزجاجة الأمامية، تقاطرت تلك الكتلة التي قذف بها الطائر دون أن ينظر إلى أين ستهوي، قذفها وأكمل تحليقه، فسقطت في سقف السيارة، ثم انزلقت أشلاؤها أمام عيني هديب العاجزتين، وهو يرى الرقعة تتدحرج وتتسع دون حدود، انكمش وجه هديب وحرك رقبته في حيرة وألم، غير طريق مسيره وخطا بسرعة أمام الدائرة المنحنية فوق ورق اللعب، قرر الرجوع إلى منزله لإخفاء الرقعة، مر هديب كالسهم من جانب جلستنا إلى منزله لإخفاء الرقعة، مر دون أن يلتفت، ودون أن يرفع إحدى يديه، ودون أن يخرج ذلك النصف الغريب والمرتعش من فتحة فمه.

لا يكل هديب من تنظيف سيارته. كان ينظفها أكثر مما يراها نظيفة. فلا تلبث خيوط الغبار أن تتسلق جسدها حتى تنقض يداه عليها بالدعك. كان يمسحها بدون تعب. ويشعر بمتعة غامضة عندما يحرك القماشة البيضاء فوق جسد السيارة الأملس الصقيل، ويضغط جسده كاملا عندما يرى بقعة ما في ذلك الهيكل تحتاج إلى مسح، كان يضغط بجسده وكان يسهو أحيانا وفي يده علبة التنظيف ذات الثقوب الرشاشة، فيطلق رقعة بصاق واسعة من فمه تسبق الرشة الأولى من تلك العلبة.

ـ أشك في أمر هذه السيارة
ـ يقول إنه حصل عليها من غطاء علبة مثلجة
ـ لا أعتقد أن هديب يسرق
ـ إني لم أره يمشي إلا مع ظله

كان يتكئ على حافة النافذة وعيناه شاخصتان إلى الأمام، حيث تجثو سيارته. تعبر سحابة النوم إلى عينيه فيطردها ولكنها تعانده وتطوقها بغشاء ضبابي. لمح ضوءا خافتا يزحف من بعيد، ثم اقترب الضوء إلى جدران غرفته إلى أن وصل إلى النافذة الخشبية التي يسند عليها رأسه الغافي بين مرفقيه، فيضاء وجهه المشدوه:
ـ هل هذا منزل هديب

ـ نعم أنا هو
ـ انزل إلينا
ـ لماذا
ـ مطلوب في مركز الشرطة
ـ لا أستطيع أن اذهب معكم الآن، سألتحق بكم في الصباح
ـ الآن تذهب معنا. هيا
ـ قلت لكما لا أستطيع أن اترك السيارة وحيدة في مثل هذا الوقت
ـ نقول لك يجب أن تخرج
ـ يستحيل أن انتقل الآن

يحاول هديب أن يدخل، ولكن أيادي الشرطة تندفع إليه وتسحبه بسرعة، يرتجف صوته ثم جسده، ويصرخ.
ـ السيارة قلت لكم، لا أستطيع أن أتركها وحيدة. لا أستطيع أن اتركها. لا أستطيع لا أستطيع.
تضاء النوافذ المحيطة بمنزل هديب، وتتدلى الأجساد برؤوسها الناعسة, تجتمع أيادي الشرطة حول جسد هديب، تمسكه إحدى الأيدي من رقبته، وتدفعه إحداها من ظهره، ويدان تمسكان به من يديه ويد تكمش خناقه، بقيت يد واحدة، رفعها صاحبها عاليا وهوى بها على رأس هديب، ثم رفعها وهوى بها، ثم رفعها وهوى.

***
يفتح عينيه، على حافة نافذة غرفته حيث كان يسند رأسه غافيا، وسحابة نعاس ناعمة مازالت تتشبث بهما، قبل أن يدلقهما مذعورتين على: ثلاثة براميل تسطع الألوان المتنافرة من فتحاتها، تشخص باتجاهها قطط وكلاب تتقدم ببطء من منعرجات الجبل، وهيكل أسود لسيارة عارية تربض منذ زمن.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.