الرئيسية | شعر | آيس كريم بنكهة الحديد | محمود الريماوي
محمود الريماوي

آيس كريم بنكهة الحديد | محمود الريماوي

محمود الريماوي *

1

المرأة الشبح من مواليد عام سين الميلادي.

“أكبر” من النساء المتقدمات في السن،

و”أصغر” من مراهقات المدرسة.

ويروقها أنها ، في المُجمل،لا عُمر لها.

2

المرأة الشبح أشد أنوثة من النساء

وأكثر ذكورة من الرجال.

3

المرأة الشبح إمّا أدركها لأيٌ ونَصْب،

تتنهّد وتتمنى لو أنها امرأة كبقية النسوة،

وتحلم لو هي شبح يخرج من الفيلم ويُنادم الساهرين سهرتهم التلفزيونية.

لكن ما العمل يا فلاديمير

فهي لا ترتضي أن تستوي امرأةً خالصة، أو شبحاً صرفاً

فتجمع الحُسنييْن بزُهدٍ غفير وتواضعٍ جمّ،

ولا يُلبّي طموحها الامبراطوري أنها امرأةٌ شبحٌ ليس إلا..

4

لا صورة لها،

لا ضوء ينبعث منها

لا عنوان

لا صوت

لا خفق.

لا رائحة.

شجرة داكنة الخضرة ،عزلاء، متباعدة الأغصان

تطرد الطيور والذكريات عنها أولاً بأول.

5

يحتسبها “تقليديون ” غريبة أطوار،

ليقولوا، ما هَمّ.. ما همّها

فما هي إلا امرأة راديكالية

من الألف الى الياء

من أخيلة الشهوة الى حانوت الأشرطة الموسيقية،

ولها أن تُمطر أصدقاء الفيسبوك والإيميل بوابل لعنات

فلا صديق إلا عازفٌ منتحر،

وإلا رعشة الليل أمام البحر الشجي.

6

الكراهية لا تعرف طريقاً الى قلبها الوردي

إنها تجنح فقط الى المقت،

الى حقن سوء الظن بالمُغذّيات،

الى الإزورار فالانقضاض على التّحنان

متى اقترب قوسه ولامَسَ شعرها

تنقضّ بطعنة نجلاء تتأوّه هي لها..

وليس سراً أنها تشمئز من الخبز الساخن والمواعيد.

7

المرأة الشبح مُضادّة للتوقعات،

خصيمة للبداهة ( كأن تُضطر للرد بمضض على تحية تُلقيها جارة مُسالمة).

وفي الأثناء تنقُم شديد النقمة على الألفة،

تحنق الحنق كله على الوداد،

ويقتُلها اللطف “البورجوازي”،

وبغير أن تكون ساحرة

ينكسر الماء بين كفّيها الصغيرتين

ويندم.

8

المرأة الشبح تنام في الضوء، وتستيقظ أول العتمة.

تستيقظ وتنفر الى حديقة الشرفة وقد أنارها ضوء الشارع الفلورنسي، تُرقّص هناك فراشة عرجاء بأصابعها الدقيقة، وتنكفىء مسرعة كي تفتح الباب لطارقٍ لم يطرقه، تصادف طفلة الجيران ذات النّمَش.. تنحني عليها، تعضّها من كتفها مبرهنة لها أنها اشد طفولية منها، وتدُسّ في كفّها حبّة شوكولاتة، وهذه تشتمها وتقذف الشوكولاتة المؤلمة، والمرأة الشبح تطرب وتهتف في دخيلتها: مرحى للشتيمة، الشتيمة لا التفاح فاكهتي الأولى، ومحراثي الذي أشق به صحراء الأيام.

9

بمشية الكشّافة وعنفوان الديكة تعبر الشوارع ساعة الغروب، تغفل عن تناول وجبتها وتتذوق وهي سائرة قضمات كبيرة من حلوى الغضب، حلوى تلتصق بسقف الفم، طعمها فلّين وكبريت. تزهو المرأة الشبح بحلواها صنيع يديها، تهنأ بمذاقها، وتستقوي بها على “التفاهة”.

10

تلسعها فجأة دمعة سخينة لمرأى دُمية كسيفة خلف الزجاج، تتمتم: ” أوه..إن لم تكن أنا الأخرى، فهي توأمي المفقود..” تتلفت حولها مخافة أن ” عدواً ” قد سمعها. تنقُد البائعة ثمنها على عجَل، تتأبط الدمية وتخرج بها هامسة في أذنها: لا تبكِ يا صغيرتي. ليس هكذا تعبّري عن سعادتك بعثوري عليك. دعي التشاؤم جانباً. التشاؤم لا يُؤكّل عيش. لن ينفعك مخفوق الذكريات السُّكّرية، أو الثقة بأحدٍ منهم. سأشتري لك آيس كريم سوف تحبّينه، آيس كريم بنكهة الحديد، كي تشتد عضلاتك. حضني أكثر دفئا من حضنك، شفتاي ناطقتان، شَعري أطول، أسناني أقوى، ريقي أحلى، لساني زهري اللون، أنفاسي بركانية وأستحمّ كل يوم بالبخار والليمون.. متى استحممتِ آخر مرة؟ أنت لا تخسرين شيئا، لا تتكبّدين أي عناء، أنا من يحمل العبء كله، أنا الذي وجدتك، أنا من دفع مالاً “. تحضنها بفخر على الصدر مستشعرةً طراوتها. وهي تحدج الفضوليين بنظرات مُتوعّدة تطوف بها شارعين أو ثلاثة شوارع فرعية، وتحت ضغط الملالة والرغبة في الانتقام، تنحني وتتنازل عن الدمية لأول عجوزٍ ذات أحفادٍ تصادفها، وهذه ترقص نظارتها الطبية على بقايا حاجبيها وتأنس بالإثارة أكثر من الهدية، والمرأة الشبح تأنس بغموضها العنكبوتي، بدريئتها التي تستضيء بها.

11

مع أنه ليس ممثلاً ولا موسيقياً ولا رساماً، فإن المرأة الشبح تغبط في السِّر والجهر، آناء الليل وأطراف النهار فارس الأزمان دون كيخوتة،

تغبطه على كل شيء، وتستوحش حليفاً يستحوذ على أقاصي خيالها.. تتأبطه أو يتأبطها، تطير معه وتشُقّ الأنواء على متن جواده النفّاث، وتنتوي غبّ الوصول دعوته الى جرّة قهوة بالحليب في المقهى الباريسي الساحر “الكتكوت الصغير” ، فإذا تلكأ الشاب في الترجّل والاستجابة للدعوة، أو فكّر في حشر سانشو معهما على الطاولة، ستفاتحه قائلة بغير مواربة: أنت لم تفهمني…عُدْ الى الجندية ، أو عُد الى جباية الضرائب بدل هذه الخيبة المُطنطنة.

* أديب وإعلامي من الأردن، رئيس تحرير " قاب قوسين".

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.