الرئيسية | سرديات | واقع القصة العربية القصيرة المعاصرة: الدوائر المتداخلة | د. حسن سرحان

واقع القصة العربية القصيرة المعاصرة: الدوائر المتداخلة | د. حسن سرحان

د. حسن سرحان ( ناقد وأكاديمي عراقي ):

 

يسلتزم الحديثُ عن واقع القصة العربية القصيرة المعاصرة النظرَ في دوائر عديدة متداخلة بعضها فني متعلق بالمنجز القصصي نفسه وبعضها الآخر إجرائي يقع خارج المنطقة الإبداعية للقصة وليست هذه الأخيرة مسؤولة عنه إلاّ بقدر معيّن. فنياً، تبدو القصة العربية القصيرة اليوم في حال قد يكون الأفضل في عمرها الزمني غير الطويل حيث تشهد وفرةً عددية على مستوى القاصين الجيدين ذوي الأعمار الصغيرة نسبياً وتنوعاً في توجهاتهم واختلافاً في أنماط كتاباتهم. أضف إلى ذلك وجود قاصّات شابّات بدأنَ بالاشتغال بعناية على تثبيت حضورهن الفني ورسم ملامح تجربتهن القصصية. قراءة تجارب هؤلاء القاصين والقاصات تسمح بالقول إنّ القصة القصيرة اليوم متجهةٌ بقوة نحو تدوين حضورها الخاص وتشكيل هويتها السردية التي تمثلها وتتمثل بها مما سيبعد عنها، لو استمر نهج الكتابة هذا على ما هو عليه الآن من حماسة، شبهة كونها نوعاً أدبياً بلا مواصفات ولا خصائص مميِّزة، هذه الشبهة التي اتخذ منها بعضُ الدارسين للقصة ذريعة لإعلان موتها أو اندثارها متجاهلين أن القصة القصيرة تستمد فرادتها من حقيقة أنها أبعد الأشكال الأدبية عن تقديم نموذج سردي مغلق ذي صفات محددة وأطر ثابتة. القصة القصيرة شكل لا نهاية له ونموذج تعبيري مشرع الأبواب والنوافذ لم يكترث كتّابُها يوماً بوضع إطار حوله لإدراكهم أن الكتابة القصصية ليست غير نص تجميعي مفتوح على كافة الأنواع وقابل للاحتمالات والإضافات والتأويلات لأنه معنيٌ، أكثر من غيره من أجناس السرد، بالتنوع وانتهاك الحدود. لا يجب أن يفهم غيابُ الأطر المحدِّدة للنص القصصي القصير على أنه نقطة ضعف في القصة كجنس بل هو أساس وجودها وسبب بقائها واستمرارها. القصة القصيرة ستموت لحظة كتابة معايير جمالية ثابتة لها تحصرها ضمن أُصول قارّة وقواعد معينة يحرم خرقها والتجاوز عليها. راهنُ القصة العربية القصيرة يقول إنها ما تزال شديدة الخصب والعطاء من حيث الشكل والموضوعات والعوالم الفنية التي يبدعها قاصون وقاصات اختاروا هذا الشكل الصعب من الكتابة. يلاحظ على كتّاب القصة الحاضرين وكاتباتها الحاليات اشتراكهم في خصائص معينة لعلها ناشئة من تقارب ظروف الإنتاج. مع ذلك فهم لا يمتلكون منظوراً موحَّداً للقصة القصيرة -وليس هذا مطلوباً منهم على أية حال- بسبب اختلاف أنساقهم الفكرية (غولدمان كان سيستعمل مصطلح “رؤية العالم” بدل النسق الفكري) ومرجعياتهم الجمالية وتباين فهمهم لطبيعة القصة القصيرة ودورها في الحياة. عدمُ وحدة المنظور أدّى إلى تعدد تقنيات القص وتنوع اتجاهاته بين محورين رئيسين. يسعى أولهما إلى الاجتهاد في التجريب الذي، وإن نأى بخطابه القصصي عن ما يسميه غريماس ﺒ “الدلالات النووية” المولِّدة للأيديولوجيا داخل العمل الأدبي، لا يغترب عن الواقع ولا ينكر حضور البعد الأيديولوجي ولكنه يجعله داخلياً يخضع لحركة النص الذاتية النامية بحسب قوانينها الخاصة التي تعكس صفاته (أعني النص) النوعية إنْ على مستوى الشكل أو المضمون. أما ثانيهما فهو يميل إلى التزام منهج فني يرفض تفريغ الأدب من الشحنة العاطفية ومن نبض الحياة، يتتبع تفاصيل الواقع بصفته مصدراً أصلياً للحكي ويركِّز على الدلالة الاجتماعية للأدب من دون الإمعان في الأيديولوجيا والتضحية بغايات المكتوب الجمالية الأخرى والتفريط باستقلاليته النسبية لأجل ما هو ظرفي وعابر. على المستوى الإجرائي، تبقى القصة القصيرة تعيب على النقد، وهي بذلك تمتلك بعضَ الحقِّ أو كلَّه، استصغاره لشأنها وتجاوزه لعموم منجز كتّابها الإبداعي واقتصاره على تناول تجارب معيّنة وكسله عن متابعة ورصد الفضاءات الفنية والمساحات الثيماتية التي تتحرك ضمنها القصة القصيرة في بلداننا العربية ناهيك عن استمراره، أي النقد، بترديد مقولات سكونية قديمة واجترار أحكام جاهزة لو افترضنا صحة انطباقها على فترة زمنية معينة من عمر القصة العربية القصيرة فإنها لم تعد ملائمة لواقعها الراهن. إن النص القصصي القصير اليوم أكثر من مرصوف لغوي منسوجٍ انطلاقا من قواعده القديمة الشائعة كالتكثيف والاختزال والقطع والحذف ومشاغبة أفق انتظار القارئ. قصتنا القصيرة الراهنة توتر وانفعال دائمان وتجاوز مستمر وارتياد لمناطق سردية مجهولة ومغامرة تقنية لاستكشاف الخفي يُصاغ في ضوئها عالمٌ فني يحمل في ذاته قدرةَ التحول والرغبة في خرق سكونية الزمن الخارجي وتحدي قوانين الواقع لخلخلة بناه التأريخية والاجتماعية. أرى، استناداً على كل ما سبق، أن العلاقة بين النقد الأدبي والقصة القصيرة بحاجة إلى مراجعة يجب أن يكون غرضها بلورةُ رؤيةٍ نقدية عميقة وجادة تتبنى منظوراً واسعاً يدرك الواقع الراهن المتعدد والمتنوع للقصة العربية القصيرة، ينبذ التفسير الآلي ذا البعد الأحادي الخطي ويبتعد عن الاختزال والتبسيط والابتذال. همسةٌ أخيرة في “أُذن” النقد: حجم النوعِ الأدبي وديناميته لا يحددهما الكم ولا تقررهما كثرةُ الجوائز والمسابقات.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.