الرئيسية | ترجمة | نيل غيمان: لماذا نقرأ؟ وماذا تقدم الكتب لخبرة الإنسان؟ – ماريا بوبوفا / ترجمة: علا الأخرس

نيل غيمان: لماذا نقرأ؟ وماذا تقدم الكتب لخبرة الإنسان؟ – ماريا بوبوفا / ترجمة: علا الأخرس

 لماذا نقرأ؟ وماذا تقدم الكتب لنا؟ سؤال قديم وجذاب كقدم الكلمة المكتوبة بحد ذاتها. رأى غاليليو القراءة كطريقة لامتلاك قُوى الإنسان الخارق. وبالنسبة لكافكا، كانت الكتب “الفأس الذي يكسر البحر المتجمد بداخلنا”؛ ويعتبر كارل ساجان الكتب كـ” برهان بأن البشر قادرين على صنع السحر”؛ ووجد جيمس بالدوين فيها طريقة لتغيير مصير الأشخاص؛ وبالنسبة للبولندي الحائز على جائزة نوبل فيسوافا شيمبورسكا، تقف الكتب على نهاية حدود حريتنا.

       ولكن، أحد أدق وأكثر الاستفسارات ارتباطًا بأهمية الكتب ودور القراءة في حياة الإنسان هو ما قاله نيل غيمان في قطعة أدبية جميلة عنوانها “لماذا يعتمد مستقبلنا على المكتبات والقراءة وأحلام اليقظة”.

       وُجّهت في الأصل كمحاضرة لهيئة القراءة، وهي مؤسسة خيرية بريطانية مكرسة لتقدم للأطفال من جميع الأعراق فرصة متساوية للحياة الجيدة من خلال تعزيز حب القراءة فيهم مبكرًا، وقد أضاف هذا المضمون لاحقًا في أحد كتبه الذي يتضمن قصص مختارة والخلاصة الاستثنائية التي قدمها لنا غيمان عن قوة الأسئلة التحذيرية.

تطرّق غيمان لسؤال، “كيف تغيرنا القراءة، وبماذا تفيدنا”:

استمعت في أحد المرات في مدينة نيويورك إلى حديث عن إنشاء السجون الخاصة، وهو قطاع نام ضخم في أمريكا. تتَطلب صناعة السجون وضع خطة لنموها المستقبلي من خلال حساب عدد الزنازين التي سيحتاجونها وعدد السجناء الذين سيشغلونها بعد خمسة عشر عامًا من الآن، ووجدوا أنهم يستطيعون التنبؤ بتلك البيانات بسهولة فائقة، باستخدام معادلة بسيطة جدًا قائمة على معرفة نسبة من لا يستطيع القراءة من الأطفال من سن 10 إلى 11 عامًا. ومؤكداً أن منهم من لا يقرأ للمتعة.

وضع غيمان بعين الاعتبار كيف يمكن للبالغين في بعض الأحيان أن يُضعفوا شغف القراءة الموسِع والحافظ للحياة بحسن نية، معيدًا الصدى لمحاضرة مادلين لانجل عام 1983 عن الإبداع والرقابة ومُهِمة كتب الأطفال. وقد كتَب في قطعة عن الحاجة المُلِحة للآباء والأمهات والمربيين:

لا أعتقد أن هنالك كتب أطفال سيئة. لقد أصبح رائجًا بين بعض البالغين أن يشيروا من حين لآخر إلى مجموعة من كتب الأطفال، أو ربما أحد أنواعها الأدبية، أو إلى كاتب معين واعتبارها كتبًا سيئة، وأنه يجب على الأطفال أن يتوقفوا عن قراءتها. رأيت ذلك يحدث مرارًا وتكرارًا؛ أُعلِن إيند بلايتون على أنه كاتب سيء وكذلك آر. إل. شتاين، ومثلهما عشرات الكُتّاب. وانتُقِدت المجلات الهزلية بشدة لكونها تُعزز الأمية، هذا هراء وغطرسة وبلاهة.

       لا يوجد كُتّاب سيئين للأطفال، لأن كل طفل يختلف عن الآخر، وكل طفل يحب ويريد أن يقرأ ويبحث. يستطيع الأطفال أن يجدوا القصص التي يحتاجونها ويعيشون في داخلها. والفكرة المبتذلة العتيقة ليست كذلك بالنسبة لشخص يصادفها للمرة الأولى. لا تردعوا الاطفال عن القراءة لأنكم تشعرون أنهم يقرؤون الكتاب الخطأ. فالقصص التي لا تروق لكم، هي مدخل لكتب أخرى تفضلون قراءتها. وليس للجميع ذات الذوق.

       يمكن للكبار أن يدمروا حب الطفل للقراءة من غير قصد بمنعه من قراءة ما يستمتع به، أو بإعطائه كتبًا قيمة يحبونها ولكنها مملة مثل كتب القرن الواحد والعشرين المكافِئة للأدب الفيكتوري. وهكذا، سينتهي بنا الحال إلى جيل يؤمن بأن القراءة غير ممتعة، بل ربما أسواء من ذلك، فيرونها بَغيضة.

ينتقل غيمان بعد ذلك للوظيفية الرئيسية الثانية للأدب وقدرته الهائلة على تعزيز المشاركة الوجدانية. ويكتب وجهة نظر تدعونا لتذكر الإقرار الصحفي لريبيكا سولنيت بأن ” الكتاب هو القلب النابض في صدر آخر”:

عندما تشاهد التلفاز أو تحضر فيلمًا، فأنت ترى أمورًا تحدث لأناس آخرين. بينما القصص النثرية شيء يُصاغ من الحروف الأبجدية، وحفنة من علامات الترقيم، وأنت، أنت فقط، بواسطة مخيلتك، تخلق عالمًا وتعمره بالناس وتراه بأعين الآخرين. فتشعر بأشياء، وتزور أماكن ودنيا لم تكن لتعرفها بطريقة أخرى. وتدرك أن الجميع هناك هم أنت ايضًا. وتصبح شخص آخر، وعندما ترجع إلى عالمك، ستجد نفسك متغيرًا بعض الشيء.

       المشاركة الوجدانية أداة تقسّم الناس إلى مجموعات، مما يتيح لنا الفرصة لنصبح أكثر من مجرد أشخاص مهووسين بأنفسهم.

يشير غيمان إلى الوظيفة الأساسية الثالثة للأدب القصصي في حياة الإنسان وقدرته على تعريفنا على نُسخ مختلفة من العالم بواسطة تصور احتمالات بديلة لطريقة الأشياء ويذكرنا ذلك بموضوع أورسولا لي جوين الحماسي عن كيفية توسيع مدى الأمور الممكنة الخاصة بنا بواسطة رواية القصص بطريقة مبتكرة:

يستطيع الأدب القصصي أن يريك عالمًا مختلفًا. ويأخذك إلى مكان لم تزره من قبل، كتلك القصص الخيالية التي يأكلون فيها فواكه الحوريات. وما أن تزور ذلك العالم الآخر، فلن تستطيع أن ترضى تمام الرضا عن عالمك الذي نشأت فيه. وعدم الرضا أمرٌ جيد؛ فإذا كان الناس غير راضين سيغيرون عالمهم ويطورونه ويجعلونه أفضل ومختلف.

ولكن ربما أضمن طريقة لتثبيط حب القراءة منذ بدايته هي عدم الوصول للكتب تمامًا، والمكتبات هي أفضل وسيلة لتحجيم هذا الخطر، هذا المكان المقدس الذي أطرت عليه ثورو في أحد المرات بأنه العدد الضخم والبهي من الكتب. وكتب بيل مويرز في مقدمته لرسالة حب التصوير الفوتوغرافي الجديد للمكتبات بأنه إذا كانت المكتبة مفتوحة، الديمقراطية تكون مفتوحة أيضًا بغض النظر عن حجمها وشكلها. يروي غيمان دور المكتبة في تأسيس حياته الخاصة:

لقد كنت محظوظًا. كان هنالك مكتبة محلية ممتازة بالجوار، وكان والداي من النوع الذي يمكن إقناعه بأخذي للمكتبة وهما في طريقهما إلى العمل في عطلتي الصيفية. و لم يمانع الأمناء فيها وجود طفل صغير بلا رفقة كل صباح في مكتبة الأطفال وشق طريقه نحو فهرس البطاقات بحثًا عن كتب الأشباح أو السحر أو الصواريخ، بحثاً عن مصاصي الدماء أو المحققين أو الساحرات أو العجائب. وعندما كنت انتهي من قراءة كتب الأطفال، أبدأ في قراءة كتب البالغين.

لقد كان غيمان محظوظًا لأن أمناء المكتبة كانوا معنيين باحتضان حبه للقراءة، كانوا من النوع الملهم، وليس النوع الذي حاول أن يعيق استكشاف رائد الفضاء رونالد ماكنير لمكتبة طفولته. وأضفى غيمان بنِظرة مُحِبة لأمناء مكتبة طفولته:

لقد كانوا أمناء مكتبة جيدين، ويحبون الكتب، ويحبون أن تُقرَأ. لقد علموني كيف أطلب الكتب من المكتبات الأخرى عن طريق الاستعارة بين المكتبات. ولم يتكبروا على أي شيء قرأته. كان يعجبهم وجود ذلك الطفل واسع العينين المحب للقراءة، لقد كانوا يساعدونني، ويتكلمون معي عن الكتب التي أقرأها، ويجدون لي كتب أخرى من سلسلة معينة. عامَلوني كقارئ، لا أكثر ولا أقل من ذلك، وهذا يعني أنهم عامَلوني باحترام. لم أكن معتاداً على أن أُعامل باحترام وأنا في عمر الثامنة.

المكتبات هي حرية.  فيها حرية للقراءة، وحرية للأفكار، وحرية للتواصل. وهي تتعلق بالتعليم، وليست من نوع التعليم الذي ينتهي بانتهاء المرحلة المدرسية أو الجامعية، ولكنه التعليم الذي يتعلق بالمتعة، وصُنع مساحات آمنة والوصول للمعلومات.

واستعار غيمان مجاز مثالي لإثبات اعتقاده بأن الكتب ستبقى للنهاية، محتمَلاً إلى ما بعد عصر الشاشات في كتابته التي عقِبت بيان هيرمان هيسة العظيم عن سبب عدم فقدان الكتاب لسحره مهما تطورت التكنولوجيا:

وقد أشار أن دوجلاس آدمز قال له في أحد المرات، قبل ظهور الكيندل -جهاز قراءة الكتب الإلكترونية- بأكثر من عشرين سنة، أن الكتاب الملموس كالقرش. أسماك القرش عريقة، لأنها قد وجِدت في المحيط  قبل الديناصورات. وسبب بقائها إلى الآن هو أن أسماك القرش أفضل من أي شيء آخر في كونها أسماك قرش. الكتب الملموسة صلبة، وصعبة التلف، ويسهل الاحتفاظ بها، ولا تحتاج لمصادر طاقة كي تعمل، ومريحة في يدك: انها جيدة في كونها كتب ولذلك سيبقى لها مكان دائم.

اعتنى غيمان بأن لا يخلط بين طريقة نقل الرسالة مع محتوى الرسالة نفسه، فإن القراءة هي التي تُهِم، حيث أن طريقة النقل لا تؤثر في فوائد القراءة، فكَتَب:

نحن نحتاج للمكتبات والكتب ومواطنين يعرفون القراءة والكتابة. أنا لا أهتم، ولا أؤمن بوجود اختلاف في كون الكتب ورقية أو رقمية، سواء كنُت تقرأ في لفيفة أو بتمرير الشاشة. المحتوى هو المهم. ولكن الكتاب يعتبر هو المحتوى، وهذا هو المهم.

الكتب هي الطريقة التي نتواصل بها مع الموتى. وهي الطريقة التي تُمكننا من أخذ دروس من الأشخاص الذين لم يعودوا بيننا، دروس جَمَّعَتها الإنسانية وقدّمتها، وجَعَلت المعرفة في ازدياد بدلاً من كونها شيئًا يجب أن يعاد تَعلمه مرارًا وتكرارًا. يوجد حكايات أقدم من كثير من الدول، حكايات جعلت الثقافات والمباني التي رويت فيها لأول مرة تصمد لفترة أطول.

استعرض غيمان في محاضرته الممتازة عن كيفية استمرار القصص، إن هذه الحكايات نجت بمجهود الأشخاص الذين قاموا بنقلها. واستعرض أيضًا ماذا نحتاج لنستطيع رفع مسؤولياتنا للمستقبل، كقُراء وكُتاب ومقيمين ورواة قصص:

أعتقد أنه يجب علينا أن نقرأ للمتعة في الأماكن الخاصة والعامة. فإذا قرأنا للمتعة، وشاهدونا الآخرين ونحن نقرأ، حينها نتعلم ونستخدم مخيلاتنا. ونُثبت للآخرين أن القراءة شيء جيد.

يجب علينا أن ندعم المكتبات. أن نستخدم المكتبات، ونشجع الآخرين على استخدامها، ونَحتَج على إغلاقها. إذا لم تكن تُقَدّر المكتبات، فأنت لا تُقَدّر المعلومات والثقافة والحِكمَة. أنت بهذا تُسكِت الأصوات القادمة من الماضي وتُضر المستقبل.

يجب علينا أن نقرأ لأطفالنا الأشياء التي يستمتعون بها بصوت مرتفع. وأن نقرأ لهم القصص التي سئِمنا منها. يجب علينا أن نُقلد الأصوات ونجعلها قَصص مثيرة للاهتمام، ويجب علينا ألا نتوقف عن القراءة لهم لأنهم تعلموا أن يقرؤوا لِأنفسهم. يجب أن نجعل وقت القراءة بصوت مرتفع وقتًا لاجتماع العائلة وترابطها، وقتًا لا تُفتح فيه الهواتف، ونبتعد فيه عن كل الملهيات.

يجب علينا أن نستخدم اللغة. وأن ندفع أنفسنا لمعرفة معاني الكلمات وطريقة استخدامها، لنتواصل مع الآخرين بوضوح، ولنقول كل ما نعني. يجب أن نبتعد عن تجميد اللغة، أو الزعم بأنها خاملة ويجب أن توَقّر، ولكن يجب أن نستخدمها كشيء حي يتدفق ويستعير الكلمات ويسمح للمعاني وطرق اللفظ ان تتجدد مع الزمن.

نحن ككُتّاب، وخاصة كُتّاب قصص الأطفال، لدينا لِزام بأن نكتب الحقيقة لقُرّائنا، وتزيد أهميتها عندما نخلق حكايات عن أشخاص وأماكن لم تُوجَد قط. وبأن نفهم أن الحقيقة ليست فيما يحدث، بل فيما تخبرنا عمن نكون. وفي النهاية، الأدب القصصي هو الكذبة التي تخبرنا الحقيقة. يجب علينا ألا نجعل قُرّائنا يضجرون، بل يجب أن نجعلهم يرغبون بتقليب الصفحات. أفضل علاج للشخص الذي ينفر من القراءة هو الحكاية التي لا يستطيع التوقف عن قراءتها. وفي حين أنه ينبغي علينا أن نُخبر قُرّاءنا الأمور الحقيقية، وأن نسلحهم بالدرع الواقي، وأن نمرر لهم كل الحكمة التي جمعناها في فترة إقامتنا على هذه الأرض الخضراء، يجب علينا ألا نقدم المواعظ والمحاضرات، وألا نجبرهم على أخلاق ورسائل معينة ليقتدوا بها مثلما تُطعِم العصافير الأم اليرقات لفراخها. ومهما كانت الظروف، يجب ألا نكتب ابدًا للأطفال اي شيء لا نرغب نحن بقراءته.

ينبغي علينا كمؤلفين لكتب الأطفال أن نعي ونعترف أننا نقوم بعمل مهم، فإذا أفسدنا الأمر وكتبنا كتب مملة تُبعِد الأطفال عن القراءة والكتب، فقد نتسبب بإضعاف مستقبلنا وإعدام مستقبلهم.

أشار غيمان لقدرة الإنسان الفائقة على الخيال بأنها أبرز الالتزامات، في كتابته التي عقبت دفاع وليام بليك الشديد عن الخيال:

ينبغي علينا جميعًا، بالغين وأطفال، كُتّاب وقُرّاء، أن نستغرق في أحلام اليقظة، وأن نتخيل. إنه لمن السهولة بمكان التظاهر بأنه لا أحد يستطيع تغيير شيء، وأننا نعيش في عالم ومجتمع ضخم، وأن الفرد ليس له قيمة إلا كذرة من ذرات الحائط، أو كبذرة أرز في حقل. ولكن الحقيقة هي أن الأفراد يستطيعون تغيير عالمهم مرارًا وتكرارًا، ويصنعون المستقبل، ويفعلون ذلك بتخَيل أن الأمور يمكن أن تكون مختلفة.

[…]

ألقِ نظرة على هذه الغرفة، كل شيء تراه، بما فيه الجدران، كان عبارة عن مجرد خيال في مرحلة معينة. قرَر أحدهم أنه قد يكون الجلوس على كرسي أسهل من الجلوس على الأرض فتخَيل الكرسي. وكان على أحدهم أن يتخيل طريقة لأتحدث اليكم الآن في لندن دون أن تنهمر علينا الأمطار، وأكرر أن هذه الغرفة وكل محتوياتها، وكل شيء في هذا المبنى والمدينة، موجود فقط لأن الأشخاص يتخيلون. لأنهم انغمروا في أحلام اليقظة، وتفكروا مليًا، فقد قاموا بصنع الأشياء التي لم تُصنع من قبل، وشرحوا الأمور التي لم توجد بعد للأشخاص الذين استهزأوا بهم.

       وفي النهاية، وبعد مرور الوقت، نجحوا. كل الحركات السياسية، والحركات الشخصية تبدأ بأشخاص تخيلوا طريقة أخرى للوجود.

التزام غيمان الأخير هو من المواضيع الرنانة في هذه الأيام:

يجب علينا بأن نخبر الساسة ما نريد، بأن نصوت ضد الساسة الذين ينتمون لحزب لا يعي أهمية القراءة في صنع المقيمين ذوي الشأن، ولا يريد أن يحافظ ويشجع على المعرفة. هذا ليس متعلق بسياسة الأحزاب. ولكنه متعلق بالإنسانية بشكل عام.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.