الرئيسية | فكر ونقد | سركون بولص عالميا | عزالدين بوركة

سركون بولص عالميا | عزالدين بوركة

عزالدين بوركة

إلى روح شاعر عظيم.

أُجمّعُ نفسي

عارضاً وجهي للبرق

وأنا أهذي بانتظار أن تتركني

الموجة

على شاطىْ مجهول، مقيَّداً

إلى حجَر.  (س. ب.)

في خضم السجالات والمشاحنات المثارة مؤخرا عن قصيدة النثر، إلى أي حد استطاعت أن تفي هذه القصيدة بالوعد الذي انفجرت عنه؟ لم يكن من المبرر فعلا أن يفتعل كامل هذا الجدال العقيم، سنوات بعد تثبيت هذه القصيدة لقدم رؤيتها على كامل المساحة الجغرافية لأقاليمنا الأدبية، نستحضر هنا وبشغف كبير أحد شعراء هذه القصيدة الذين خَفقوا بألوية بياضها الكريستالي عاليا في سماء الشعر، ووصلوا بصوتها الوقاد المتموج إلى العالمية. سركون بولص بما يحمله -كأيقونة شعرية- من رمزية وحيوية عالية، كأحد الأسماء الشعرية إلى جانب محمود درويش وأدونيس، ممن خطوا لمسارهم منعرجات خاصة ودافئة، مهدت لتطويع اللغة وتطويرها، أليست اللغة العربية الحديثة التي نتداول اليوم في: الصحافة والإعلام في البيوت والمدارس، هي نتيجة هذه الحركة الثقافية الشعرية بالخصوص، التي أمدتنا بهذه اللغة الحديثة، التي يستخدمها حتى الأصوليين اليوم في خطاباتهم وكتاباتهم؟

نعم فقصيدة النثر عبر شعرائها الذين أخلصوا لجمرة الشعر، قد رفعت اللثام عبر تكسير البنية وتهشيم الأشكال والصيغ الأسلوبية، المعتمدة على البلاغة وأوزان عضلاتها، عن لغة جديدة ما زالت بحاجة لأكثر من دراسة سوسيولوجية، ولسانية، لنعرف مدى هذا التأثير الهائل الذي أحدثته هذه القصيدة على بنية اللغة عموما.

إننا إذ نستحضر سركون بولص الذي التحف منافي عديدة، وخط في منجزه أكثر من مرحلة، تجاوزها باشتغال عالِم، فتح لقصيدته قمة أفقية، يتمشى فوق غيومها بارتياح كأحد أخر السحرة في هذا الزمن، الذي كان وما زال الأكثر حاجة للشعر.

من بغداد حمل هذا الشاعر مشروعه الجمالي، حيت توقف على تجربة مجلة شعر رفقة أدونيس والكوكبة النيّرة التي كانت تقودها في بيروت. لينقل مجموعة من النصوص الهامة من الإنجليزية للعربية، قبل أن يلتحق بسان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية، قادما إليها من منافي عديدة، ليتعرف على مصادر الشعر الأمريكي، ويتعرف على شعراء جيل البكنسو، والشاعر الكبير هيروين الذي كان من أبرزهم. خلال الأعوام التي قضاها هناك، ظل وفيا للثابت فيه، شاعرا قلقا ومترجما نزقا، يمارس خيانات أنيقة عبر تهريب الشعر، من غيمة إلى غيمة، بلغة سلسة وبهجة كاملة، ما جعلت ترجماته تنتخب دائما لأهميتها ومنسوب الجدية البالغ المطرزة به. ليقرر بعدها الهجرة إلى لندن .. محطات وعلامات كثيرة في حياة هذا الشاعر، التي لم يستطع كتاب لمها بأكملها على طول العدد الهائل من الدراسات، والأبحاث التي خطت عنه وعن تجربته، إلا أنه سركون بولص يظل صوتا شعريا وقادا ومختلفا، استطاع أن يكسر طابع البلاغة اللغوية الموروثة ويفجر جماليات جديدة في قصيدة النثر، ما جعل قصيدته تعرف بدورها ترجمات إلى لغات ستقرأ بها بغزارة، وهذا ما يجعلنا لا نختلف في شيء ونحن نتكلم عن ساركون بولص عالميا. فهو على طول إقامته في الولايات المتحدة لم يتخلص من لهجته البغدادية، ونفسه القروي، لينطلق من محليته الصرفة للكتابة قصيدة ستغير الكثير في نظرة النقاد للشعر، الذي أفنى حياته بأكملها في خدمته، فهو لم يتزوج أو ينخرط في مهنة تكون مصدر رزقه اليومي. ولم يتخذ عنوانا تابتا لإقامته. سركون عاش مغامرة الشعر لأقصاها مثل أشوري تائه كما كان يلقبه أنسي الحاج كانت المسافة التي تفصله عن مجايليه من الشعراء العرب كبيرة. فقد كان مؤمنا برسالته واشتغاله المتواصل على قصيدته، الذي مكن له ما صار يوصف به، ظاهرة شعرية استثنائية، أوصلت الشعر العراقي إلى العالمية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.