الرئيسية | سرديات | حظ المبتدئ | وجدي الأهدل

حظ المبتدئ | وجدي الأهدل

وجدي الأهدل (اليمن ):

 

   بعد تسريحي من الجيش – الخدمة الإلزامية – عدت ومعي ثلاثة دفاتر، تضم أعمالي الأدبية الأولى. وقتها كنت شاباً ساذجاً في العشرين، وليست لي معرفة بأي شخص يعمل في مجال الإعلام. أتذكر أنني حملت روايتي الأولى “الومضات الأخيرة في سبأ” إلى إحدى المطابع، وقابلت الناشر، وطلبت منه أن يطبعها. شعرت بخيبة الأمل عندما طلب مني نقوداً. سألني إن كنت قد نشرت قصصاً في الصحف والمجلات؟ فأجبته بالنفي. من سؤال لآخر اكتشف الرجل أنني لا أقرأ الصحف والمجلات، ولا أعرف أي أديب يمني معرفة شخصية، ولا أعرف المؤسسات الثقافية والمنتديات الأدبية، وأنه لم يسبق لي مطلقاً الاحتكاك بمن لهم علاقة من قريب أو بعيد بالصحافة. سألني “كيف سيعلم الناس بصدور روايتك؟” حقيقة كنت أتصبب عرقاً ولم يكن لدي جواب. نصحني هذا الرجل الطيب أن أبدأ أولاً بنشر قصص قصيرة في الصحف والمجلات، لكي يتعرف عليّ القراء. عدت للبيت وأنا أتساءل كيف يستطيع الأدباء اختصار حكاية ذات بداية ووسط ونهاية في صفحتين أو ثلاث؟؟ بعد أشهر تمكنت من تطويع خيالي لكتابة قصص قصيرة، وواجهتني عقبة النشر إذ لم أكن أعرف أحداً، كما كنت أعاني خلال تلك السنوات من صعوبات في التواصل الاجتماعي.. إذ كنت بلا أصدقاء تقريباً، ولا ألتقي أحداً خارج قاعات الدراسة في الجامعة. وقعت في يدي مجلة أدبية راقية اسمها “أصوات” أعجبتني جداً، فقررت أن أرسل لها قصصي بالبريد. أرسلت أربع قصص لكي يختاروا واحدة منها للنشر. في تلك المجلة كانت أكبر الأسماء الأدبية في اليمن تنشر فيها، بالإضافة إلى كوكبة من الأدباء العرب. وكنت أقول في نفسي إنني قد وضعت مستقبلي الأدبي على المحك. وفي يوم من الأيام فاجأني زميل في الجامعة حين اقترب مني وقال لي “مبروك”. تكلم لمدة عشر دقائق وأنا مصعوق تماماً، ولم أستوعب ما قاله. قال كلمات كبيرة جداً، عجز عقلي وقتها عن استيعابها، وأما قلبي فكان ينبض بسرعة وكأنني أركض. كانت هذه أكثر لحظات حياتي غرابة. كنت أشعر أن الأرض تميد من تحتي، وأن قدميّ تعجزان عن حملي من وقع المفاجأة. كان الشك يأكل قلبي ويطرق بمطارقه عقلي، وصوت جانبي كان يطن في أُذنيّ ويقول لي “لا تفرح .. هناك لبس.. أنت تعرف أنك لم ترسل له قصصك.. ربما هذا الزميل خلط بينك وبين شخص آخر”. استغرب زميلي أنني بدوت محرجاً وفاقد الثقة بنفسي إلى درجة مريعة. لا أظنني شكرته، فقط قلت له أنني سأذهب للمكتبة للتأكد من صحة الخبر الذي جاء به. وأنا في الطريق كنت ما بين مُصدّق ومُكذّب، وكنت أفكر “مستحيل أنا لم أرسل إليه قصصي”. وصلت إلى المكتبة، واشتريت نسخة من جريدة 26 سبتمبر، وانزويت بعيداً. وقلبت الصفحات حتى وصلت إلى صفحة أديب اليمن الكبير الشاعر عبد العزيز المقالح، وكم كانت دهشتي عظيمة عندما وجدته قد نشر لي قصتين شغلتا مساحة الصفحة كاملة، مع مقدمة تتحدث بالإيجاب عن كاتبهما. خط هذا الرجل المتدفق نبلاً وإنسانية كلمات تشجيعية، مُقطرة ومكثفة، كان لها وقع الزلزال على روحي. يعجز القلم في يدي عن وصف مشاعري في تلك اللحظة. الأمر يشبه سريان طاقة في الجسم تعادل كهرباء مدينة. هكذا في ثوانٍ محدودة جداً تحولت من هاوٍ لم يسبق له نشر أي نص، إلى كاتب يُبشر به أكبر أديب في البلاد، بل ويعمده قاصاً له أسلوبه الخاص في الكتابة. هذا الشعور بالسعادة القصوى لا يمر في حياة الكاتب سوى مرة واحدة. أتذكر أنني اشتريت 17 نسخة من الجريدة، وليلتها لم أنم، ظللت مستيقظاً حتى الفجر، كنت ألمح مستقبلي الأدبي كله، وأفكر أنني بمصادفة سعيدة، لا أدري كيف رتّب لها القدر، قد وضعت قدميّ في أرض الأدب.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.