الرئيسية | فكر ونقد | تمظهرات الجسد بين الرغبة والتشييئ قراءة في مجموعة ” تي جي في” | حميد ركاطة

تمظهرات الجسد بين الرغبة والتشييئ قراءة في مجموعة ” تي جي في” | حميد ركاطة

حميد ركاطة – ناقد وروائي

 

 محطات سردية للقاصة المغربية سلمى مختار أمانة الله

حميد ركاطة

تتكون المجموعة من ثمان نصوص أو ” محطات سردية” مع ملحق (وصفات سردية) خصصته الكاتبة  لتقديم ثلاث وصفات غذائية مع طرق تحضيرها.

والكتاب هو من الحجم المتوسط، ويتكون من 86 صفحة صادر عن منشورات مرسم سنة 2016 بدعم من وزارة الثقافة المغربية. ولوحة الغلاف من إنجاز الفنان محمد نبيلي.

استهلت الكاتبة نصوصها بمقاطع شعرية، كما ضمنت إهداء قدمته لوالدها” إلى من زرع المعنى في دمي الحرف: ابي” ص 5.

تعتبر هذه المجموعة باكورة أعمال الكاتبة سلمى مختار أمانة الله. وقد توفرت فيها شروط القصصية والمتعة والتجديد والمغايرة والانفتاح على أجناس سردية أخرى من ضمنها ( وصفات الطبخ) لأول مرة في تاريخ الابداع القصصي، سواء كنصوص وظفت لخدمة النص القصصي وجاءت في سياقه أو من خلال تضمينها كنصوص مستقلة ضمن ملحق خاص ” وصفات سردية” ص 79 وهو ما يدفعنا إلى طرح أسئلة مشروعة حول استراتيجية هذا الاشتغال والأفاق التي ربما رامت الكاتبة الوصول إليها والأهداف التي ترغب في تحقيقها. فالتوظيف لم يؤثر على بناء العوالم القصصية التي تفاوتت من حيث القوة والجودة والاثارة والجمالية. وهي تترصد حيوات العديد من الأفراد باختلاف انتماءاتهم الطبقية والاجتماعية والثقافية، للكشف عن التعدد الذي يتشكل منه نسيج مجتمع بأكمله.

” محطات سردية ” تجنيس جديد يطرح بلغة العصر مفاهيمه، ضمن مقترحات عديدة قدمها جيل من الكتاب المغاربة. وهو مفهوم يجب أن نسجله نظرا لجدته، ولارتباطه بعتبة الكتاب ” تي جي في” كاستيراد من حقل لغوي آخر، ولترجمة حرفية لمفهوم من الفرنسية إلى العربية للدلالة على قطار سريع. فماهي أهم ملامح هذه المحطات السردية فنيا؟ وما هي دلالاتها، وبأية خلفية إبداعية كتبت؟

في كتابه شعرية النص الموازي يقول الدكتور جميل حمداوي” ثار موريس بلانشو على نظرية الاجناس الادبية، مثلما ثار عليها عالم فن الجمال الايطالي كروشيه في دعوته التخلص من مفهوم الجنس ونفيه. … وهكذا كتب بلانشو في اواخر منتصف القرن العشرين قائلا : ” لم يعد هناك كتاب ينتمي إلى جنس. كل كتاب يرجع إلى الأدب الواحد ..ومن ثم، فهو بعيد عن الاجناس وخارج خانات النثر والشعر والرواية والشهادة… يأبى أن ينتظم تحت كل هذا، أو يثبت له مكانه، ويحدد شكله..” (2)

ولعل أول ما يلفت الانتباه كذلك في هذه النصوص هو تصديرها بأبيات شعرية، لتكون بمضامينها نصوصا موازية بما تحمله دلالاتها المنفتحة. أبيات ستوظف قيمتها المضافة بصفتها نصوص مستقلة كذلك، تامة، وناجزة المعنى من قبيل:

” الحياة رحلة قصيرة جدا

لا تستحق أن نجمل

من أجلها كل هاته الحقائب ” ص6

” وتلك الريح التي بترت ساقيها

كي لا تركض خلف الغيم

ألا تعلم أن الأرض

حبلى بالعطش” ص 14

” يا لومها إرأف

بدمعة ترقد بمرفأ الندم

شوقا ما أغصانه

في مقل الغياب” ص 22

وهو ما يمنحنا الاحساس أحيانا، أن التوظيف كان أساسا وفق تحقيق تقاطع بين دلالة البيت الشعري والنص القصصي. ” وللنص الموازي وظيفتان وظيفة جمالية تتمثل في تزيين الكتاب وتنميقه، ووظيفة تداولية تكمن في استقطاب القارئ واستغوائه. بل إن المظهر الوظيفي لهذا النص المجاور يتلخص اساسا – كما اشار جنيت- في كونه خطابا اساسيا، ومساعدا، مسخرا لخدمة شيئ آخر يثبت وجوده الحقيقي وهو النص وهذا ما يكسبه – تداوليا – قوة إنجازية وإخبارية باعتباره إرسالية موجهة إلى القراء أو الجمهور” (3)

فإذا كانت الأبيات الشعرية قد تعدت الومض وهي تحمل في طياتها ملامح كتابة شذرية تحيل على التأمل، فإن النصوص القصصية قد كشفت عن قدرة هائلة على النسج العميق في بناء عوالم متخيلة تمتح من  الواقع مرارته وقسوته وبؤسه. قصص تشيد عوالمها على انكسارات نفسية، وترسبات قهر اجتماعي بغيض عمق من جرح الذات واغترابها، بل أفرغها في غالب الأحيان من كينونتها وإنسانيتها، وبراءتها.

 فإذا اعتبرنا في المحطة السردية الأولى” اسمي سوني ” ص7 ،أن غياب تربية جنسية هي نتيجة لسوء فهم الواقع، أو الخوف من ترسباته القديمة على نفسية على بطل النص عندما كان طفلا صغيرا، من طرف أمه. فما اقترف في حقه سيحرمه من النمو بشكل طبيعي ” كطفل ذكر”، وهو ما سيضاعف من معاناته بعد موت والدته, وبالتالي الحرمان من حنانها ليصطدم بقسوة الواقع في أول تجربة حياتية، بالانصياع والاستسلام، لصوت الجسد وندائه الداخلي، بفعل تحوله الجنسي. الذي غرس فيه ازدواجية في الشخصية.و وفقا لما قاله كارل ميلر في كتابه ” القرين ” حول الازدواجية ” إنما تشير إلى تلك الحياة المزدوجة الخاصة بالفرد ..كما أنها تشير إلى ذلك ” القرين المتخيل أيضا ” هكذا تشير الازدواجية هنا إلى ظاهرة إكلينيكية أو مرضية تتعلق بتعدد الهوية انقسامها تعدد مستوياتها ، أو طبقاتها أو حالاتها مع وجود التناقض بين هذه الحالات والمستويات “( 4). يقول السارد:” منذ تلك الليلة التي أجبرت فيها السنة على الانصياع لرغبة محتفلين برأسها الذي لم تكن قد عتقته بعد يومية الوقت، وأنا فاقد للسيطرة على جسدي، منساق وراء لذة الانبطاح” ص12. وهو ما عرى عن طبيعته التكوينية المخالفة، وبالتالي برز تحديد اختيار مسار جديد بعيد عن اختيارات والده الذي تبرأ منه بسبب مثليته في النهاية. يقول السارد:

” والد رحل لغصة إبن تبرأ من نسبه، ولم يستطع أن يبرأ من حبه، عزلني من أخذ عزائه وصافح بيد الغرباء كف موته” ص 12 .

لقد كشفت هذه المحطات السردية أن للجسد سلطة ولغة من الصعب فك شفراتها الموغلة في التعقيد. فإذا كانت المحطة السردية ” اسمي سوني ” قد كشفت عن شذوذ جنسي، وانقلاب بالقوة ضد الطبيعة التكوينية، فإننا في المحطة السردية الرابعة” ذاكرة النسيان” ص 31 سنقف حول  كيفية تحول القسوة إلى طاقة تدفع بالجسد نحو المخاطرة في رحم المجهول، ليكون قربانا للغرباء، يقول السارد عن بطلتي النص رحيمو وزهرة ابان وصولهما لبيت الشيخة فاطنة ”  رحمة المكلومة بيتمها وقسوة زوجة الأب، وزهرة القربان الذي أراد والدها  سفك دمه على فراش شيخ القبيلة مقابل قطيع معز وبقرة ” ص 33

هكذا سيعمل القهر الاجتماعي على تطعيم الذات والأنا،  لتصبح للجسد سلطته المعنوية التي ستعلو فوق كل السلط الأخرى، كسلطة فاعلة ومؤثرة، وموجهة، وبالتالي مؤججة لصراعات ومصدر نزاعات مؤدية للهلاك، كما حدث في بيت الشيخة فاطنة. يقول السارد:

” دوى عويل الشؤم في أركان المكان ..الشاف علي الدركي يريد الاستئثار برحيمو التي كانت محجوزة ليلتها للقايد بوجميع ، عبثا حاولت صاحبة البيت تسوية الخلاف عارضة خدمات زهيرو، لكن الخمر والسجائر المحشوة كانت لها كلمة الفصل… انطلقت الرصاصة من مسدس الدركي لتستقر بأحشاء القايد” ص 35

فالجسد بقدر ما استأثر بهالة رجال السلطة وهو محفوف بمكانته الاعتبارية، سيتحول إلى مجرد سلعة قابلة للاستهلاك المفرط بالقوة، بعيدا عن الرغبة والاحتفاء، ليفقد سلطته ويصبح تحت ربقة العنف، والقهر، بعد نزوع رحيمو نحو التوبة ولقاؤها بمعتقل سلفي سابق بإحدى المحاكم، انبهر بجمالها وتورط في عشقها يقول السارد:

” فأراد أن يفوز بالأجرين، أجر إعادتها إلى سبيل الرشد، وإنقاذها من بؤرة الكفر والفساد” ص 36

فالمبررات التي سيقت للاستئثار بجسد البطلة تظل مفرغة من “قيمتها” ومحتواها الانساني والمنطقي، وبالتالي سالبة للإرادة  والقدرة على اتخاذ القرار، وعلى الاختيار، بتحويل الجسد إلى سلعة رخيصة تحت الطلب،  وهو ما يجعله في نظرنا يفقد بريقه بإدخاله ( الجسد) دائرة  “التشييء “، بدعوى  “الاعادة إلى الرشد، والانقاذ من الكفر والفساد” في غياب تام لكل حصانة ضد التسيب والاستغلال. فهل فعلا تخلصت رحيمو من ماضيها الثقيل؟ ومن وزر حياتها الساقطة بقبولها لفكرة الزواج من سلفي؟

لعل ما أورده السارد من قرائن نصية ستدعم طرحنا، بل ستمضي في تبريره إلى حدود قصية، لتكشف عما مورس في حق ذات البطلة من عنف مادي ومعنوي، ونفسي وجسدي، دفع بها إلى التفكير في الانتحار لتخليص ذاتها ” أرادت أن تقتحم على الموت خلوته بقوة اليائس من الحياة” ص 36 . فالتعبير عن الاحساس بالاستيلاب والعجز والاحباط والاغتراب وانكسار الامل، وهو إحساس يستمد خصوصيته من التراكم التاريخي لموقع الأنثى في المجتمع”(5 )

كما سنلمس نوعا من الانتقام من نفس الجسد بالتمرد على نزواته ورغباته، والانقلاب عليه بزاوية مليئة عملت على وأد حقوقه، وتطلعاته بالقوة بعد تحرير رحيمو من جلادها وتحولها إلى واعظة دينية، ومخبرة متنكرة لخدمة السلطة. لكن هل يمكن الاقرار أن رحيمو تخلصت من سلطة جسدها وفورانه؟

بموازاة مع قصة رحيمو تبرز قصة صديقتها “زهرة” التي اتخذت مسارا واضحا باستمرارها في الاحتفاء بجسدها بعد رحيلها من أسفي نحو الدار البيضاء وتطليقها لفكرة العمل الجماعي ضمن فرقة للغناء الشعبي ” فن العيطة ” بعد حادثة موت القايد لتنخرط بحماس في حاناتها ومراقصها الليلية. احتفاء بمواهبها وتجربتها الشائعة في الغناء ضمن فرقة الشيخة فاطنة. الأمر الذي مكنها من فتح مسارات جديدة، واستفادتها من علاقاتها الخاصة مع  الأثرياء والنافذين.

في حين سنلمس تمظهرا آخر لانهيار سلطة الجسد، وبالتالي سيكون دافعا نحو الالتفاف ولم الصفوف من جديد. وهو التفاف حول جسد الهالكة “الشيخة فاطنة” الذي شكل بفنائه حدثا للقاء الفتاتين ” زهرة ورحيمو” ليصدح صوتهما منسابا بالفرح من عمق الحزن، وبالحياة من رحم الموت، وقد انخرطتا في سفر ارتدادي نحو الأمس القريب عبر حلم جميل  إعلانا على الاحتفاء بالحياة والحرية وايقافا لعقارب الزمن واستعادة لرغبات منفلتة وللحظات الذاكرة التي ظلت أسيرة زمن ولى عبر التذكر والسفر نحو الماضي. يقول الدكتور عبد اللطيف محفوظ: ” إن كل عملية تذكر هي  بالضرورة مسيرة من الغوص، مسيرة من التوقعات عند محطات معينة يحددها الحاضر أي أن الخطاب الماضي لحظات تستعاد وتلتقط وفق التداعيات الذهنية أو وفق استناد جدلي إلى الحاضر وذلك الاستناد الذي يتحدد في كون الماضي يتقيد بموضوعية شعورية حاضرة بالضرورة ”    ( 6)

في حين يبرز الاحتفاء بالجسد في أبهى مظاهره في المحطة السردية السابعة” برازيليا” ص 63 حيث سيحظى الجسد باحتفال يليق بمقامه، من خلال طقوس تكشف أنوثة باذخة، جسد سيتحول بما يضمره من جمال إلى أيقونة تحمل في طياتها خبرا سعيدا وبشرى طال انتظار لنجاح حملها أخيرا بعد أنة وصبر طويل. و كان التفكير في الاحتفاء بالجسد، يتم بالتعبير عما يختلج في المشاعر من لهفة وصدق ووفاء وحب. بحيث ستعمل البطلة على التفكير في كل السبل الكفيلة بفتح أقفال جسدها، لإثارة زوجها بدء بأقصر الطرق إلى قلبه ” عبر معدته” من خلال ما أعدته من عشاء باذخ يليق بمناسبة الاحتفال بعيد زواجهما الخامس. وبعودة الزوج المسافر خارج الوطن، والتي لم تعد تفصلها عن لقائه سوى بضع ساعات ليس إلا. يقول السارد:

” فتحت الدولاب الكبير لتخرج منه الفستان الابيض الذي اشترته خصيصا للاحتفاء بعيد زواجهما، … جلست امام المرآة تعيد رسم عينيها بقلم كحلي … وضعت قليلا من البودرة على وجنتيها وجفنيها، مررت لكلوس الاحمر على شفتيها قبل أن يلبسها الفستان الابيض العاري الظهر. انتعلت حذاء بكعب عالي من نفس اللون، طوقت عنقها بسلسلة صغيرة يتدلى مها قلب مرصع بأحجار ماسية” ص 69. وهي استعدادات تمت على قدم وساق في سباق مع الزمن، لكنها فرحتها لم تكتمل في النهاية، وهي تتلقى ” خبر تحطم طائرة الايرباس التابعة للخطوط الفرنسية القادمة من العاصمة البرازيلية ” على قناة ” TF1 ” الفرنسية ” كان آخر ما رأته قبل أن تبتلعها ظلمة العتمة” ص 69

فهل نحن إزاء محطات سردية بنهايات موجعة  ورسائل ساخرة كذلك تعمق من جراح شخوصها المنتقاة من كل طبقات المجتمع المغربي على اختلاف فئاته،  لنقف على حجم المعاناة والاصرار على الاستمرار كما في المحطة السردية الثالثة ” غريبة لبهلة” ص 23 . وهي محطة وجهت فيها رسائل سياسية ساخرة وانتقادا صريحا للمشهد الحزبي والسياسي عامة بالبلاد. من خلال تقديم بقعة زيت كعينة منتقاة بعناية فائقة، والسارد يعري عن طبيعة العلاقات الداخلية لحزب معين، وعن كيفية  انتقاء المنخرطين والمنخرطات فيه اعتمادا على مقاييس مزاجية  مبنية على خلفيات غامضة، وتبادل للمصالح الشخصية في غياب مقاييس لا تعتمد على الكفاءة، بقدر ما تعتمد على جاذبية المنخرط ومفاتن جسده وإثارته. يقول السارد:

” بعد أن أصبحت مكلفا في الحزب بفرز أهلية الملتحقات الجديدات، فمن تسقطها قراءتي أو تتمنع عن منحي فرصة دقيقة ومستفيضة بتفاصيلها، تبقى فرصتها في تجاوز عتبة العضوية المجردة إلى الصفوف الأمامية كفرصة الحمار في أن يصبح فرسا ” ص 24

في حين يكشف السارد عن الوجه الآخر للانتقاء ” أما المحظوظات فأقدم عنهن تقارير “مرفقة” بصور حية، تبرز قدراتهن وكفاءتهن التي ستستثمرها قيادة الحزب بوسائلها الشخصية التي تتجاوز اختصاصاتي كمجرد منسق عام” ص 25.

وإلى جانب هذا الرسم السريع لبعض الملامح النفسية  للشخصية القصصية تكشف تفاصيل النص عن بعض حيثيات “انتفاضة كوميرا” التي جاءت على اثر تداعيات العام الذي دعت إليه  المركزيات  النقابات العمالية بالمغرب في بداية ثمانيات القرن الماضي وما خلفته بمدينة الدار البيضاء وفي نفوس المغاربة قاطبة من أضرار جسيمة اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا. وبالتالي ما تسببت فيه من قتل جماعي وإعاقة مستديمة لذى بعض الأفراد. كما هو الأمر بخصوص بطل هذه المحطة السردية ” فقدت عيني اليسرى يوم 21 يونيو 1981 في إضرابات الكوميرا.. ما أقسى الأرقام حين تتحول إلى مخالب تنهش فروة الذاكرة لتفقأ عين النسيان” ص 25. كما يكشف النص عن واقع حياة فئة من المغاربة بالمدن الكبرى إبان تلك الفترة تحت عتبة الفقر ومعاناتهم الانسانية في الحصول على لقمة عيش كريمة وعن تحقيق مدخول يضمن لأغلبية الأسر شروطا إنسانية للعيش وهو أمر تحقق عبر خطاب انفرادي يقول السارد”

” غالبت الفقر فهزمني الظلم. أرداني قتيلا يسكن جسدا يطل على العالم من عين وحيدة. سيبتلع التاريخ لسانه الأخرس وستصمد العاهة المستديمة أمام مزايدته ..سأمرغني في تراب صمته الأبكم حتى يتلطخ جرحي بوحله” ص 26 .

و”يتحدد الحكي في كل خطاب ما ينفرد بإظهار حدث ما .أي أن الحدث لا يتمظهر في خطاب آخر كما أن الخطاب لا يتمظهر أحداثا متعددة  ، بل يظل محصورا في التعليق الذي يتلو بعض الأفعال والأحداث التي لا تتكرر “(7). كما يرصد النص تحول بعض المدن كالدار البيضاء ومنشأتها وهي تنفض غبار الماضي ونذوبه ” فبدت حسب السارد” كامرأة مترهلة غمست ملامحها في علبة للمساحيق الرخيصة” ص 27 ولعله وصف يعكس عمق الاحساس بالانتماء وبالاغتراب في كثير من الأحيان ” كازبلانكا” المدينة التي تسلبك حق الانتماء لسواها لتسكنك بدل أن تسكنها ..تلفق لك كل التهم الممكنة لتبقيك رهين عشقها” ص 27 ، ولعل هذا التحول الذي طال المجال سيطول أوضاع قاطنيه كذلك للتكيف مع متطلبات الحياة الجديدة وظروفها القاسية. ” وأغرقت هي ليلي في ثمالة حاناتها ومراقصها الرخيصة ..وتصيد الزبناء(..) ليسقطها الحظ الذي صادفته جالسا بإحدى بارات المدينة بكامل يقظته المتحينة لصيد يشبهني” ص 27

لقد كشفت علاقة البطلة بالصحفي عن جروح عميقة جدا ” وهل غيرها يصلح سيفا لذبح الوقت المنتصب بمقصلة الانتظار؟ “ص 28 ،  وعن استيهامات داخلية وكذلك عن تطلعات ( فجة) لا ترقى إلى مستوى عيش الحياة الكريمة المحلوم بها، والبطلة تنحدر بحقارة نحو الدرك الأسفل من القهر تلقائيا ” وكنت مستعدا لأن أتحول إلى ورق صحي لمسح نجاسته، فلم تكن لخسارتي من قبل أية قيمة فر بورصة الخسارات التي بيعت أسهمها في مزادات علنية، تنافس فيها الضحايا مع جلاديهم في أكبر سوق بيع متلاشيات الوطن بالجملة” ص 28 ، إن هذا الموقف كشف عن الصوت الداخلي للبطلة وهي تتمزق بين الصمت والبوح في صراع نفسي حاد . ” إن التصور المنظوري للنص يرى بأن الكاتب لا يحول كل مادته إلى تعابير وكلمات، بل يحتفظ بذخائر الصمت، المر الذي يعني أن الصمت مثل الكلام، له وظيفة دلالية تتلون حسب السياق، وأن له بالتالي دورا أساسيا في عملية التواصل “(8). لنتساءل، لماذا كل هذا الكره للذات؟ لماذا كل هذا التبخيس حد موت الكرامة، وإدلال الذات وإفراغها من كل قيمها الانسانية ؟ لماذا هذا الانسحاق الطوعي والارتماء في مزبلة التاريخ الجديدة. فهل سينجح البطل في ايجاد سبل كفيلة لتغيير مسار حياته ؟

” صرخة تخللتها أصوات طائشة من يد أحكمت بقيضتها على مصير وطن بأكمله، على سنوات ظل الرصاص لصيقا بجدارن ذاكرتها المثقوبة” ص 26.

وستكشف المحطة السردية الخامسة ” تي جي في ” ص 41، والحاملة لعتبة ” المجموعة” عن تفاصيل مثيرة لعملية نصب واحتيال باسم الحب، والنصب على الجسد، ستكون ضحيته إحدى سليلات أسرة عريقة، عانت من اليتم، وتشبعت بالفكر التحريري الغربي لتنغلق على نفسها داخل عالم التشكيل ومواقع التواصل الاجتماعي لتتحول للقمة سائغة لذئب بشري يتقن بأساليبه الخاصة الايقاع بالعوانس ” عمر الشاوني الذي عرف بأساليبه الخاصة للاستحواذ على قلوب وممتلكات من فاتهن أن يركبن قطار الزواج، تذكرة التي جي في باهظة عزيزاتي المغفلات” ص 51.

في حين تكشف لنا المحطة السادسة” سلطانة ” ص 53، عن أبرز عمل سردي سواء من حيث بناء أحداثه أو تداعي صورها المنفلتة من عقال الوصف وجمال اللغة، وهي تنضح ببهاء حروف علي بياض أسر. فأحداث النص تنفحنا بجرعات وجع متتالية ومختلفة الوقع، وهي تغوص في أعماق القاع المغربي، وقضايا أفراده بمختلف انتماءاتهم الاجتماعية، عبر عمليتي الاسترجاع والتذكر.

نص ” سلطانة” محطة سردية تجعل من العتبة ليس مجرد مدخل، أو معبر لاقتفاء المعنى، بل هدفا وغاية تتحقق شروطها الانسانية عبر رغبة البطلة التي عاشت قهرا اجتماعيا داخل محيط أسري افتقدت فيه للحب وللتقدير الشخصي، باعتبارها الفتاة البكر لأسرتها. فالإحساس بالدونية هو ما سيدفعها للبحث عن تقدير خاص وذاتي وهي تقارن حبها لأمها بحب هذه الأخيرة لحمار والدها، مفارقة لافتة ستدفعها إلى تقديم نفسها وذاتها قربانا لأول شخص تتحقق معه شروط إنسانيتها وكينونتها وتكتمل في لحظات وصال فارهة. لحظات حدث معها حمل سفاح ستتحمل تبعاته بكل جرأة وشجاعة، وإصرار وهي تواجه الأنواء والعواصف، لتسقط أخر ورقة من شجرة العائلة دون أن تركع أو تمنح الآخرين مجرد الاحساس بضعفها.

لقد أبرزت الكاتبة سلمى أمانة الله مختار قدرات هائلة في بناء هذا النص وغيره من النصوص وعن علو كعب في التوظيف السلس لأكثر من تقنية كالفلاش باك، والبناء المتوازي لحدثين، ضمن سرد مطرز بجمال اللغة وجاذبية التعبير، والتضمين.”

نص سلطانة بقدر ما يعيد إلى الواجهة قضية الأمهات العازبات، يكشف من جهة أخرى أسباب النزوح نحو ذلك الاختيار البغيض عن اقتناع بسبب سوء المعاملة داخل الوسط الأسري.

لقد شكل هذا النص منعطفا بارزا في المحطات السردية لمجموعة ” التي جي في ” فكان سفرا مائزا عبر قطار سريع من عادتة ألا يركن إلى التوقف الكثير، لكنها كانت توقفات اضطرارية شكل العض منها سفرا ارتداديا نحو الماضي أو في الحاضر أو استشرافا للمستقبل وهو ما جعل سفرنا على متنه مفعم بالجنون، والدهشة، وتأمل في مرايا سردية بأكثر من حامل وسند، وفي:

” وجوه المرايا التي

اعترضت طريقي

نحو صانع الاقنعة

ألبستني عراء الحلم ” ص 52

مراجع وهوامش:

(1) سلمى مختار أمانة الله تي جي في محطات سردية منشورات مرسم ، ط/1 ، 2016  الرباط

(2) جميل حمداوي شعرية النص الموازي عتبات النص الادبي ص 45، منشورات المعارف الدارالبيضاء 2014

(3) جميل حمداوي شعرية النص الموازي عتبات النص الأدبي مرجع سابق ص 15

(4) كارل ميلر في كتابه ” القرين ” حول الازدواجية دراسات في التاريخ الأدبي ص 158 / 2008

(5 ) د . الرشيد بوشعير هواجس الرواية الخليجية ص 56 دبي الثقافية الكتاب 73 ديسمبر 2012 )

” (6 )  عبد اللطيف محفوظ ” صيغ التمظهر الروائي بحث في دلالة الأشكال ص 128  منشورات المختبرات 2011 الدار البيضاء

(7)  عبد اللطيف محفوظ ” صيغ التمظهر الروائي بحث في دلالة الأشكال ص 125  مرجع سابق

(8) د . أحمد فرشوخ تأويل النص الروائي ” السرد بين الثقافة والنسق ص79  ” top édition  الطبعة الأولى سنة 2006

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.