كل الطرق تؤدي إلى الإنسان إلاّ طريق الدم | علي أوعبيشة
علي أوعبيشة
قبل البدء: لا غالب إلاّ التكرار، سبحان العادة.
1)
في البدء: كل من غنِم بالرّب قتله: تبدأ القصة من سقيفة بني ساعدة، منطلق الجريمة وخطيئة السياسة الأولى – في الزمن الإسلامي-، جريمة الاغتنام بالرب والاغتناء به، هذا الاغتنام (الاغتناء) الذي جعل من الإله يدا بشرية تستبيح الدماء البريئة والأموال العامة والثروات الوطنية، وكذا الجيوب، جيوب المقهورين والبسطاء السذّج. من هنا تبدأ الجريمة، جريمة تحويل مقام الرّب إلى ما يشبه بهيمةً لا تصلح إلاّ لأن تكون وسيلة للتنقل، تنقُل تجار الدين الذين لا يبيعون شيئا غير الله ومشتقاته ( النعيم المادي والحور العين والسكينة الأبدية…أو ما يدعونه إجمالا بالجنة) من البؤس والفقر إلى الرخاء والغنى ويصرّون على أن المال ليس غير (وسخ الدنيا). هنا تتوقّف مهمة الإله/ دابة تجار الدين، تبّلغهم الحظوة والمال والسلطة أو على الأقل التقرّب من قصور من يمتلكونها، فيبقونها بعد ذلك في الخارج، لأنها وسيلة فقط للوصول وليست غاية لهم. ثم يقنعون البسطاء مع ذلك بكون الحظوظ الاجتماعية والمراتب السياسية قدرٌ إلهي لا مفرّ منه، وأن القضاء الوحيد الذي يمكن أن نرفع إليه قضايا الظلم هو قضاء الآخرة، لكي يترك كل ظلم على حاله ونقف مكتوفي الأيدي ونحن ننتظر القيامة…تبا لنا.
2)
ليس الربّ ماركة مسجّلة وأوّل الكفار من يعتقد بأن الله علامة سعودية أو قطرية، لذا انتبهوا فالله ليس برميل نفط… فلا مفاضلة بين الأماكن ولا مجال للتمييز القيمي بين الأزمنة، فلا توجد أماكن مقدّسة ولا حتى أزمنة مكرّمة، وإن وجدت فتلك خدعة للتسول باسم الرّب…كل ما اعتبر فتحا من الله كان غزوا وكل الأراضي التي سيطر عليها المجاهدون باسم الرسالة كانت تحت راية النكاح، وإذا وصلت جيوش الخلافة آنذاك إلى ما وراء أرض الكنانة بالسيف فإن أحفادهم اليوم قد وصلوا إليها زمن إمارة المؤمنين بدولارات النفط، والراية واحدة/نفسها.
3)
في الحاجة إلى الإرهاب بالحجّة، لا إلى الإرهاب بالدم، أوّل خطوة للتحرّر من خدعة الكهنة أن نقلب أساطيرهم، مثلما قلب نيتشه الأفلاطونية، فجعل الأرض كل شيء والسماء مجرّد وهم، علينا أيضا أن نلغي ثنائية الكفر والإيمان، فالكفر الوحيد الذي يمكن تمثُّله هو تخريب الحضارة وإقامة المذابح باسم الرّب، أوّل الكفار من يقاتل باسم الله، من يقتل الأحياء وفاءً للموتى، أول الكفار من يعتقد بأن الله وكالة بنكية أو شباكا أوتوماتيكيا أو دار دعارة…أوّل الكفار من يقاتل في سبيل الله، نعم أيها المجاهدون إنكم تقتلون السبيل إلى الرّب. ولعلّ القيامة الوحيدة التي يمكن تصوّرها هي سيادة الظلم إلى الأبد. في مقابل هذا الضلال والخداع نحن في حاجة إلى أفق جديد، أفق الجهاد في سبيل الإنسان، في سبيل قيم العطاء والرعاية والحبّ والحياة والأحياء، نكاية في قيم الحقد والموت والدمار…لسنا في حاجة إلى من يجاهدون في سبيل الله أولئك الذين ترهبهم الحجة فيرهبون العقلاء بالدم.
4)
كل الطرق تؤدي إلى الرّب إلاّ طريقُ الدم: لا يلجأ إلى الدمّ إلاّ من هزمته الأفكار وتعرّض لغسيل دماغ، فالأفكار القوية تدافع عن نفسها بنفسها، وكل فكرة تحتاج إلى قوة مادية لتحيى ليست بفكرة، إنها خدعة من نسج الكهنة -حرّاس الجهل- لاغتيال العقل وتنصيب الموت محلّه. كل ذلك بحجة الدفاع عن المطلق والحقيقة الثابتة، بيد أن الاعتقاد في حقيقة مطلقة منزّهة عن الخطأ معناه: تحوّل نظرتنا تجاه الأفكار من اعتبارها مجرّد معارف إنسانية تحتمل الصواب والخطأ إلى اعتبارها معطيات مقدّسة لا يعتيرها النقص أو التناقض وغير قابلة للتفنيد، ما يجعلها أيضا تستحيل إلى ما يشبه طقوسا تعبّدية لا تناقش ولا تُنتقد فتصبح بذلك قائدة للعقل الإنساني ومهيمنة عليه، بعد أن كان هذا الأخير ينتجها ويقودها كميكنزمات مساعدة في مسيرة بحثه عن حقيقة الذات والعالم. لذا فأوّل الطريق هو المصالحة مع فكرة: أن الله مجرّد فكرة.
5)
أن يكون الرّب ناطق رسمي باسم الحزب السياسي فهذا بغاء: تلك خدعة الكهنة للتجارة باللاهوت، تحويرٌ ذكيّ لوظيفة الدين من السير إلى الله إلى السير بالله، انتعال الربّ والتجسّد به، أو تحويلُ الرّب إلى جسد مستباح، تماما مثل جسد الباغية لا يصلح إلا لأن يكون وسيلة للربح، خدعة الكهنوت أو الفقيه أنّه يعمل وسيطا أو ربا من أرباب/ربات بيوت الدعارة، فلا فرق بينه وبين مالكي الفنادق الماجنة أو الملاهي الليلية لاقتناص اللذة إلاّ بقليل من الحيلة والمكر، إن الله في السياسة شبيه بالراقصة في الملهى، تلك الورقة الأخيرة التي يشهرها مالك المحل السحري لسرقة الجيوب المنبهرة/المنهارة أمام سحر الجسد. الرب أيضا بهذا النفع في السياسة، مجرّد راقصة شبه عارية تسحر العيون لتُسرَق بواسطتها الجُيوب.
6)
الموتُ أضحية للرّب: يقدّم الإرهاب/الظاهري نفسه كقربان بحلّة جديدة، وربما أكثر جمالية/وحشية باعتباره أضحيةً للرب، كقربان مسخ، مثلما كان الهنود الحمر يحرقون أنفسهم تقرّبا/قربانا للإله، أو ما تواترته الأساطير الفنيقية عن الإله (ملغ أو ملخ) الذي كان الفينيقيون يقدمون حيوات البعض منهم إليه، حرقا أو إنتحارا.
في ما وراء الانتصار/الهزيمة إذا، تقدّم الضحية –أو الأضحية أو القربان- (الإرهابي-المقاتل بموته) نفسها، كأثر على الغياب، غياب شيء ما، وسط الأنقاض وبين الجرحى وعلى الجثث المشوّهة والمهشّمة والمتفحمة، إنها رغبة ميتا-تيولوجية لتعميم القربان، لجعل الضحية والأضحية في مقام واحد كمذبح إلهي أعمى. تغيب فيه ومعه أية إمكانية للتمييز بينهما، بين القاتل والمقتول(الأضحية القربان والضحية القربان). لسنا إذا أمام اختلاف في وسائل الإرهاب، بين إرهاب الجماعة الإسلامية الأولى( قتل العديد من الأشخاص فقط لأنهم يهود أو لأنهم عارضوا أفكار محمد) وإرهاب الحركات السلفية الجهادية المعاصرة، بل أمام اختلاف جذري، في الرسالة، إن لم نقل بأن الإرهاب الجديد لا رسالة له، إنه مجرّد ممر، قنطرة، وهم بأنّ الطريق إلى الله لا تقوم إلاّ بحصد الجثث لإرضاء ربٍ يُعتقد بأنه كلما كثرت دماء القرابين شرع في فتح أبواب النعيم-الجنسي. إذا أخذنا بالمقاربة بينهما، فثمة فرق شاسع بين من يقاتل بقتل الآخرين ومن يقاتل بموته وقتل الآخرين. لم يعد الإرهاب انتصارا للدعوة بالرعب” نُصرت بالرعب-حديث”، بل أصبح الرعب نفسه علامة على الانتصار، انتصار المنتحر، المنفجر، المقاتل بموته، لا لشيء غيره.
7)
من إرهاب (الإله الواحد) إلى التعدد الربوبي بوصفه حلا للتنازع على امتلاك الإله: ليس المشكل في الرّب أبدا، هذا الابن البكر للخيال الإنساني الخلاّق، فلنراجع قيم الميثولوجيات القديمة، ديانات الحب والموسيقى، حيث كان فيها الرب (أو الأرباب) عنصر(عناصر) استيتيقي(ة) لإضفاء لمسة/معنى على هندسة العالم الفوضوية (الكاووس الجميل). إن الطامة الكبرى تكمن في حراسه ولصوصه، من وحدوا فيض الحب فاختزلوه في حب رب واحد°، فجعلوا منه كل شيء وبالتالي لا شيء، فخسر بذلك جماليته وبهاءه وتدفّقه وانسيابيته ليتحوّل مع/منذ اليهودية مرورا بالمسيحية والإسلام إلى ذات جبارة/قوية/قاهرة/مكرِهة/منتقمة…، فأصبح بذلك وسيلة بيد قتلته، ماركة مسجّلة/ إيمان محتكر/ ملكية محفّظة، يحوّلون العالم إلى فوضى قبيحة بدعوى حبّه وحجة الدفاع عنه…وكم هو غريب أن تدّعي حب الله وأنت عاجز عن محبة الناس من حولك.
8)
الفضيلة العظيمة في حياتنا ليست شيئا آخر غير التحرر من تحنيط الوعي الجمعي للذات، من الذين يتبعون لصوص الله وهم يعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم يتبعون الله، وأوّل طريق هذه الحرية الجرأة على قول “لا”، هذا اللفظ الذي كاد أن يكون في زمننا كفرا، أن نقول لا لكل أشكال الظلم والفساد والجور هو منتهى الإيمان ومبغى الإنسان. أن نقول “لا” هو الايمان الحقيقي الذي يجب أن تمسك به كما تمسك بجمرة حارقة، الايمان الحقيقي هو الذي يحثّك على أن تكون من أنت ولا يحضك أبدا على أن تكون نسخة لأحد.
2016-08-24