شيخة حسين حليوي
…
“آه لو أستطيع أن أدكّ هذه الحيطان من حولي لتصبح الدنيا أكثر اتّساعا”
هل كانت حيطانا أم جدرانا؟ ألم تذكر الرواية ستائر النوافذ أيضا؟ يتذكّر جيّدا عنوان الرواية “الحريّة أو الموت”. لا يتذكّر اسم مؤلّفها. جذبه العنوان فحسب وهو من حظّه أنّه زامل سجناء مثقّفين وشبه مثقّفين. وحينما ملأت الكتب غرفتهم المُكتظّة بالأنفاس والماضي والتّهم ودخّان السجائر الرّخيصة، اختار الكتاب الذي أوحى له بالبطولة ولو على ورق. الحريّة أو الموت!
يقرأ صفحة أو أقلّ ثمّ يرميه. ويعود لينضمّ لهؤلاء المشغولين بكتبٍ ضخمة تسكتهم لساعات. لم يفهم كثيرا من التفاصيل، وحينما سأل أحدهم عن جملة ما نظر إليه بهدوء وقال: لا عليكَ. بعض الجمل لا معنى لها. لا تجهد نفسكَ فتّش فقط عمّا تفهمه دون عناء.
لم يسأل بعدها ولم يقرأ كتابا حتّى النهاية. صار يقرأ من كلّ كتاب بضع صفحات ويتركهُ. صارت العناوين تغريه أكثر. هو الذي ترك المدرسة في نهاية الصف العاشر بمعدل دون المتوسّط. لم يقرأ في حياته كتابا كاملا. تتكدّس العناوين أمامه ويختار منها ما يليق بيومه.
“الفئران والرّجال”، ” الجريمة والعقاب”. استهوته تلك الواضحة جدا، التقريريّة والتي تشير إلى صراع أو صداقة ما توحي بها الواو الرابطة بين اسمين.
في الأشهر الأولى لمحكوميّته أطلق عليه زملاؤه اسم “حارق الخيمة” بعد أن حكى لهم قصّة دخوله السّجن:
-
لم أقصد قتله أبدا. لم أعرف أنّه داخل الخيمة حينما أضرمت النيران فيها. رأيته يخرج منها قبل الحادثة بقليل. متى عاد إليها لا أعرف. كان قد فقد بيته جراء طيبته. وقع ضحيّة عملية نصب واحتيال رمته إلى الشّارع. الخيمة الّتي تكرّم عليه بها سارق بيته أطفأت آخر رغبة عنده في استعادة منزله. رضي بالخيمة في الحديقة العامة بيتا يُمارس فيها ما يشبه الحياة. أمرُّ عنه صباحا ومساء و نظرته الراضية الوادعة تثير غضبي. كيف يستسلمُ هكذا؟ كيف يرضى بذلّ الشّارع وبيته على مقربة بصقة متقنة؟ تحدّثت إليه مرّتين وكانت إجابته: لا أريد أكثر من هذه الخيمة تستر ضعفي وقلّة حيلتي. هل جرّبت مرّة مصارعة الوحوش؟ أنا لا أستطيعُ مصارعتها. هي الخيمة إذن التي يستر فيها ضعفه؟ كان لا بدّ من أحراقها حتّى يكتسب شجاعة مصارعة الوحوش واستعادة منزله. لم أعرف أنّه بداخلها. وحصل ما حصل.
لم يعلّق زملاؤه كثيرا على الحادثة، ولم يسألوا عن التّفاصيل. ولو سألوا ما كان سيرويها بعد أن اضطرّه التحقيق المضني لتكرارها عشرات المرّات. كان بالنسبة لهم نصيرا للعدل والضعف الإنسانيّ وهذا يكفي كي يحترموه ويقبلوه بينهم مناضلا عنيدا للحقّ. وهو بدوره اقتنع أنّه قدّم خدمة جليلة للإنسانية المهدورة في الشّوارع، لم يشغله كثيرا أنّ معظم من يعرفهم خارج السّجن سخروا منه ومن فكره واعتبروه غبيّا أو مختلّا. والقاضية التي حكمت عليه بالسجن لثمانية عشر عاما كانت نظراتها من تحت النّظارة الطبيّة توحي بالتفهّم والإعجاب. هذا ما رآه وهو يهزّ رأسه راضيا عن الحكم، رغم إحساس خجول بأنّ العالم لم ينصفهُ بما يليقُ بتضحيته.
خرج من السّجن بعد اثني عشر عاما بفضل حسن السّير والسّلوك. يخجل أن يقولَ أنّه لم يشعر بمرورها أو ثقلها خاصّة أمام زوجته وولديه. هما اللذان كبرا بعيدا عنه خلا زيارات شهريّة قصيرة لا يكاد الحديث فيها يبدأ حتّى يقطعه السّجانون الغاضبون دائما. وهو قد سكنه شعورٌ بالأهميّة فكان يكتفي بتكرار شعارات واحدة عن معنى العدل والتضحيات من أجل إحقاقه. هي تضحية تتضخّم عنده كلّما قرأ بعض صفحات وشارك المساجين في الحديث عن ضرورة النضال من أجل إنصاف المظلومين وإعادة حقوقهم وهو قد نسي أنّه في سبيل ذلك قتل المظلوم أيضا.
-
هي الحرب على الظلم. والخطأ يمكن تبريره لأنّه الطريق الموصل إلى الحقيقة، هذا ما يقوله عمّنا دوستويفسكي، وها نحن ندفع ثمن الخطأ ونحن نبحث عن الحقيقة. لا يهمّ ما دمنا في الطريق الصحيحة.
قالها له أحد السّجناء بثقة أنصفته وزادت من قناعته بأنّه مناضلٌ حقيقيّ يدفعُ ثمن خطأ في بحثه عن الحقيقة والعدل.
عاد إلى بيت لا يعرفهُ. كانت زوجته قد انتقلت إليه مع ولديها وهو في السّجن. بيتٌ أضيق من القديم. كرهت البقاء أمام الحديقة العامة تذكّرها بليلة سوداء تحطّمت فيها حياتها المتعثّرة بسبب خيمة رجلٍ بائس. ماذا لو لفظت الحياة أسرة بكاملها إلى الشّارع؟ ماذا لو سترت هذه الأسرة نفسها في خيمة في الحديقة العامة أمام بيتهم؟ هل سيحرقهم جميعا؟ تنفّست الصعداء وهي لا ترى من زجاج نافذة بيتها سوى البناية المحاذية وشارع ضيّق بينهما. كما أنّ الستائر التي وضعتها ضمنت لها هدوء نفسيّا حجبها عن الماضي والحاضر المُقلق.
لم يمضِ يومان وكان زوجها ينزع ستائر النوافذ الواسعة ويلقي بها بعيدا.
-
ضعيها غطاء للسرير، مزّقيها. لا أعرف. المهم لا أريدها هنا. أريد أن أرى الحياة خارج الجدران.
-
ولكنّك تكشفنا على الجيران، وتكشفهم علينا. أيّ حياة هذه التي تريد أن تراها؟ أظنّهم سيرون حياتنا أيضا.
-
ليس عندي ما أخفيه، ثمّ أنّني لا تعنيني حياة الناس المعلّقة بين الجدران، بل الناس في الشارع، الهواء، أسراب النمل، حجارة الطّريق، عمّال النّظافة، الفراغ الواسع.
ساورها شكّ أنّه لم يُشفَ من جنونه بل ربّما اكتسب جنونا آخر في سنوات سجنه.
إلى أين سيقوده هذه المرّة؟ نظراته القلقة تُخيفها. لماذا لا ينشغل بالأولاد وبما فاته من حياة هنا داخل هذا البيت الصّغير؟ لماذا ينشغل بالفراغ البعيد والنّمل ويترك تفاصيل القريب؟
-
النّمل؟ كيف تراه من هنا؟ من نافذة في الطابق الثالث؟
في محاولتها للاقتراب من عالمه علقت في شِباك الحياة التي تخترق زجاج نوافذها في خطّ موازٍ مستقيم، حياة الآخرين المُعلّقة بين جدرانهم. تحديدا في الشّقة المُطلّة على شقتهم والّتي سكنها شاب عشرينيّ يدرس في إحدى الجامعات. يقرأ كتابا في الشرفة ويتوقّف بين صفحة وأخرى عند تفاصيل المرأة وراء زجاج النوافذ القريبة. والمرأة تحرص على إخفاء تفاصيلها حينما يتفقّد زوجها النمل وعمّال النظافة ومآسي أهل الشّارع، ثمّ صارت تحرص على إبرازها والاعتناء بها حين تكون وحدها في المنزل وشابّ جامعيّ في الشرفة المقابلة يتظاهر بقراءة كتاب ويقرأ أكثر عطش امرأة وراء النافذة تتظاهر بمتابعة أسراب النّمل.
العيون قالت الكثير. أيّ قدرة للعيون على نسج الحكايات وطرح الأسئلة والإجابة عنها أيضا؟ العيون لا تتوقّف كثيرا عند الجمل الطويلة، تغريها أكثر الجمل القصيرة المُباغتة الحاسمة.
-
أشتهيكِ.
-
أشتهيكَ.
للمرّة الثانية يعود إلى السّجن. بعد عام ونصف من الحياة خارج أسواره. لم يتّفق مع النيابة على حكمه إلا عندما أضافوا تهمة أخرى في لائحة اتّهامه: متّهم بنزع ستائر النوافذ في بيته. كان يودّ أن تكون التهمة الأولى ولكنّ محاميه هدّده بتركه في معركته هذه إذا أصرّ على جنونه.
قال له أضف ما تشاء من جرائم ما دامت الجريمة الأولى سترميك في السجن لسنوات طويلة.
-
نزعت الستائر، قطفت الورود، كسرت الأطباق، دلقت الحبر على ملابس زوجتك الداخلية، كلّها لا تهمّ، قد تضيف إلى تهمتك هالة من الرومانسيّة، وقد تُضحك القاضي والشهود ليس أكثر. قل لي هل تقرأ كثيرا؟
-
قرأت بعض الكتب في سجني الأوّل. منذ مدّة لا قرأ إلا بعض الصفحات في الصحف وبعض القصائد في صفحتها الأخيرة. هل تجعلني قارئا هذه الصفحات؟
-
ههه تجعلك قارئا رديئا كما أنتَ الآن مجرم رديء لا يعرف كيف يصوغ تهمته.
-
بل أعرف جيّدا ما هي تهمتي ولم أنكرها وأنت تعرف ذلك. نزعت الستائر وقتلت جاري الشّاب.
-
سأسألك سؤالا واحدا شغلني طيلة محاكمتك الطويلة، أجّلّته لحين صدور الحكم وإغلاق ملفّك. كان سيكون مستهجنا وقتها وخارجا عن أخلاق الدفاع عن المتّهم.
-
تفضّل، أثق بأسئلتك.
-
لماذا لم تقتلها هي؟ زوجتك؟ أو لماذا لم تقتلها أيضا وكانا معا في نفس السّرير، طلبت منها أن تقف في أقصى الغرفة ثمّ أفرغت رصاصاتك في رأس الشّاب؟ لماذا؟ هل خفت على مصير ولديكَ مثلا؟
-
ولديّ؟ لا لم أفكّر في أمرهما حقّا. سنوات السّجن الطويلة السابقة وغيابي عن تفاصيل حياتهما أنستني هذا الجانب. اعتقدتُ أنّهم يكبرون هكذا دون وساطة أحد.
-
إذن؟ هل تحبّها لهذه الدرجة؟
-
لا أعرف إذا كنت أحبّها بما يكفي كي أبقيها على قيد الحياة. أو أكرهها بما يكفي كي أقتلها، أو ربّما بالعكس. أقتلها لأنّني أحبّها وأتركها لأنّني أكرهها.
-
هههه معادلة غريبة. أظنّك قارئا لا بأس به. لم تجب عن سؤالي.
-
هل سيقنعك ما أقوله؟ أم سيدهشك أو ربّما سيؤكّد لك فكرتك عنّي: قارئ رديء ومجرم رديء.
-
لا أعرف قد لا يكون أيّا ممّا ذكرته.
-
حسنا، قتلته لأنّه كان يصطاد مشاعرها من وراء النافذة المكشوفة وهي كانت خلفها، كان حرّا وكانت مسجونة بمعنى أو بآخر. ليس ذنبها أن تدفع ثمن رغبتي بنوافذ مكشوفة تطلّ على العالم خارج الجدران والنوافذ. كان عليه أن يدفع ثمن طمعه. طمع الحرّ بدهشة السجين، طمع الذي يرى العالم بعينين كبيرتين بآخر يرى العالم بنصف عين وهي رأت العالم بنصف عينها. كانت خائفة وكان مطمئنّا. كان يقرأ كتبا وهي كانت تقرأ الشّارع. هل تفهمني؟
-
لا أعرف. يبدو أنّني لن أفهمك يوما ما. كنتُ أنوي أن أحضر لك كتبا تتسلّى بها في سجنك الطويل وتسمو بك قارئا، ولكنّني عدلتُ عن الفكرة. تعرف لماذا؟ لأنّ النوافذ ستبقى. لا أحد يستغني عنها.
-
وداعا يا صديقي.