الدكتور زهير سوكاح – أكاديمي مغربي من ألمانيا
يُعد مارتين موزباخ Martin Mosebach ، الحاصل على جائزة بوشنر الأدبية لسنة 2007، من أهم كُتاب الرواية المعاصرة في ألمانيا، وقد صدرت له مجموعة من الروايات المهمة منذ ثمانينات القرن الماضي، وقد تعرف عليه القارئ العربي من خلال ترجمة عربية وحيدة لحد الآن لروايته أمير الضباب الصادرة سنة 2003، وهي رواية تاريخية تحفل بمشاهدات لرحّالة ألماني مُتخيل من القرن التاسع عشر ميلادي لبلده وللعالم. ودائما ما تعكس روايات موزباخ انشغاله بقضايا مجتمعه في ارتباطها الوثيق بالمسارات والتحولات التي تشهدها مناطق عدة من العالم، فغالبا ما تظهر رواياته كثمرات فكرية لرحلاته إلى دول محاذية للمجال الأوروبي وثقافته، وبخاصة رحلاته المستمرة نحو تركيا ودول البلقان ونحو دول المغرب العربي، مثل روايته Das Blutbuchenfest ; وبخاصة روايته die Türkin الحاصلة على جائزة دوديرر الألمانية، وتبدو نصوص موزباخ الروائية وكأنها تُؤسس لنوع مبتكر من أنواع أدب الرحلات الأوروبي الحديث حول الذات الأوروبية في علاقتها مع الآخر غير الأوروبي.
اللجوء المُعاكس نحو الجنوب
في هذا السياق تنتمي أيضا روايته Modagor “موغادور” الصادرة صيف سنة 2016 عن دار النشر الألمانية Rowohlt، حيث جاءت بدورها كثمرة لرحلة موزباخ نحو بعض المدن المغربية; وبخاصة بعد مكوثه الطويل في مدينة الصويرة، التي اختار اسمها القديم موغادور، ذو الوقع السحري والغرائبي على المتلقي الألماني، كعنوان مميز لعمله الأدبي الجديد. وتدور أحداث هذه الرواية الخيالية حول الشاب “باتريك إلف”، الذي ترك دراسته الجامعية والتحق بميدان الاستثمار المصرفي، الذي تفوق فيه كرئيس قسم في إحدى الشركات بمدينة دوسلدورف، غير أن صفقة رشوة ضخمة بملايين اليوروات التي تورط فيها (رغم عدم حاجته الملحة للمال بسبب ثروة زوجته الشابة)، كانت بمثابة خطأ حياته، والتي انقلبت بعد ذلك رأسا على عقب. فعقب استجواب قصير أُجري معه بمقر الشرطة حول الحيثيات الممكنة لانتحار أحد موظفيه، الذي كان منخرطا في تلك الصفقة المالية المشبوهة، والتي تأكدت بوادر فشلها لدى باتريك، قرّر في لحظة يأس الفرار على وجه السرعة من ألمانيا نحو المجهول قبل افتضاحه إعلاميا جراء المتابعة القضائية المرتقبة، فانطلق بسيارة أجرة في نفس اليوم إلى إحدى مطارات بلجيكا حيث استقل من هناك طائرة نحو الجنوب; نحو المغرب الذي اختاره بلدا للجوئه، وبعد أن حطت الطائرة في مطار الدار البيضاء، انتقل بالحافلة إلى مدينة الصويرة، المكان الوحيد في العالم الذي يمكنه أن يحتمي فيه، فهو مسقط رأس السيد “بيريرا”، رجل أعمال مغربي ثري من أصول برتغالية وهو الشريك الرئيسي لباتريك في هذا الفساد المالي. في هذه المدينة الساحلية الصغيرة قرر باتريك إتلاف جواز سفره والاختفاء عن الأنظار ثم البحث لاحقا عن بداية جديدة لحياته، والتي لن تكون كسابقتها في هذا البلد الشرقي “المتخلف” والمختلف عن بلده ألمانيا.
مجرد كيليشيهات استشراقية؟
في غربته الشرقية ساندته امرأة أمية وهي خديجة، أرملة صيادين ابتلعتهما، على التوالي, مياه المحيط الأطلسي، أرغمتها ظروف حياتها القاسية في هذه المدينة “الفقيرة” منذ طفولتها وفي شبابها أن تزاول مهنا مُهينة لإنسانيتها، جعلتها تكون أكثر قوة من أنوثتها في محيطها المجتمعي “الذكوري”; فقصة خديجة، البطلة الثانية في الرواية، تشكل لوحدها رواية مستقلة ضمن هذه الرواية. وبسبب تنفّذها وعلاقاتها المتعددة والقوية في المدينة حتى مع جهاز الشرطة المحلي، بل وبسبب سطوتها على عالم “الجن” وتسخيرها لهم، أمكن لخديجة مد يد العون لهذ الألماني اللاجئ إليها في مدينتها بتوصية من السيد “بيريرا” هربا من العار المجتمعي، الذي كان سيلحقه في موطنه.
غير أن نهاية الرواية تكاد تكون غير متوقعة، فكما فرَ باتريك من ألمانيا بسبب فضيحة فساد مالي، لجأ إليها مجددا هربا من فضيحته الجديدة، التي ارتكبها في البلد الذي آواه وسانده في محنته الأولى، على إثر جريمة جنسية ارتكبها بعد جلسة قصيرة لمعاقرة الكحول في غياب مضيفته خديجة. فقط في بلده سينجو من متابعة ومحاسبة القضاء المغربي له كمغتصب ألماني، وأيضا في بلده سيتمكن بشكل قانوني من معالجة فضيحته المالية القديمة بكيفية “عادلة” لن تتوفر له في بلد آخر، هكذا فكّر الشاب الألماني، وفي نهاية المطاف لا تزال هناك زوجة شابة قلقة على مصيره تنتظره بفارغ الصبر منذ اختفائه بالمغرب، كما تُظهر ذلك رسائلها إلى شريكه المغربي السيد “برييرا” المتمتع بالحصانة في فرنسا. وهكذا جعل موزباخ من بطله الرئيسي المستفيد الأول بل والوحيد حتى من فضائحه المرتكبة سواء في ألمانيا أو في المغرب بسبب انتمائه إلى بلد أوربي “متحضر” كألمانيا، والذي يضمن لمواطنيه تعامل قانوني “عادل” ومعاملة “إنسانية” حتى وإن أجرموا.
الشرق والغرب: شريكان حضاريان؟
الحبكة الاستشراقية الظاهرية، التي عمد موزباخ على أن تطغى على تفاصيل الرواية ، والقائمة أساسا على التفريق الوجودي بين الذات الأوروبية المتقدمة والآخر المشرقي المتخلف عن الركب الأوربي المتحضر، انتصرت في نهاية الرواية للبطل الشاب الألماني رغم سقطاته المتكررة، فانتصاره غير الأخلاقي يعكس التفوق الأوروبي على ما سواه. وقد أثث موزباخ لهذه النظرة الاستشراقية بمجموعة كيليشيهات تبرز بوضوح في حبكة الرواية وأحداثها; فبداية الرواية كانت في حمام مغربي عتيق بشخوصه الغرائبية التي تشكل امتدادا لشخوص هذه المدينة النائمة، والتي تعكس أزقتها العتيقة ومبانيها المتهالكة “تخلفها” الشرقي من منظور غربي، بينما تصور الرواية الحياة اليومية النشطة والعصرية في ألمانيا كبلد متقدم، يمثل دينامية العصر الحديث وحيويته المفقودة في الجنوب الغارق في سطوة أساطيره الأزلية، الشيء الذي جرّ على موزباخ انتقادات عدة وبالأخص من مجلة دير شبيغل، التي اعتبرت “موغادور” رواية كليشيهات بامتياز تم فيها إعادة تمثيل الشرق “المتخلف” كما أنتجته المخيلة الغربية. غير أن النظرة الفاحصة للرواية تشي بأن هذه الرواية بالذات تعكس ردة فعل لموزباخ على الجدل المجتمعي الدائر حاليا حول موضوعي الهجرة واللجوء في ألمانيا وما ترتب عنه من انحرافات إعلامية تمثلت في حملات تشويهية ضد اللاجئين العرب وبخاصة ضد المهاجرين الشباب من دول المغرب العربي، التي لجأ إلى إحداها بطل الرواية، الشاب باتريك، والتي استقبلته أحسن استقبال, كما هي عادة الشرق مع ضيوفه.
بهذه الصورة الجديدة عن الشرق المعاصر، الذي تنكر له باتريك، الإنسان الأوروبي “المتحضر”، يحاول موزباخ لفت انتباه القارئ الألماني إلى شرق غير نمطي وبالتالي غير تخيلي، بل واقعي يمكنه أن يصير شريكا حضاريا متكافئا، لا مفر للغرب إلا أن يتكامل معه، وهذه الرسالة المضمرة هي ما يميز معظم روريات موزباخ، التي يلتقي فيها الغرب والشرق وجها لوجه بدون حواجز حضارية.
موغادور، رواية مفتوحة
إضافة إلى تيمة “اللجوء” الراهنة تعكس الرواية تنوعا كبيرا في تيماتها المجتمعية، مثل فضائح مشاهير المال والأعمال والسياسيين التي تُنهي حياتهم المهنية، وتصاعد الجرائم الاقتصادية بسبب تنامي الفساد المادي والرشوة، والمنافسة الطاحنة بين الأفراد نحو التسلق المهني وما يترتب عنها من تضخيم للثروات ولو بطرق ملتوية، وأيضا مشكل السياحة الجنسية في معظم دول الجنوب، وهي كلها تيمات تكاد تتداخل فيما بينها، وتعكس بجلاء تمازج العلاقات بين الشمال والجنوب أو الغرب والشرق حسب مفهوم إدوارد سعيد، مما يجعل “موغادور” رواية مفتوحة على مختلف القراءات النقدية الممكنة.