لا أحدَ في البيتِ غيرنا. أنا وأنطوان وحشدٌ منَ الأصواتِ في رأسِه. ومع ذلك نحن نغرقُ جميعاً في صمتٍ مخيف. وحدها دقّاتُ عقارب الساعة على الحائط نجَتْ من صمتِنا.
الزمن لا يأبه لحركتنا، لا يأبه لأنفاسنا.
تك. تك. تك وأنطوان جالس ينظر إلى السقف.
تك. تك. تك وأنا جالسة أنظر إلى أنطوان ينظر إلى السقف.أنظرُ بدوري إلى السقف.. ثمَّ إلى أنطوان ولا أجدُ جواباً.
ويمرُّ الوقتُ بطيئاً
رأسي ثقيلة وأحتاجُ أنْ أدخّن. كم أكرهُ الخريف وهذا الجوّ المبتئس!
فجأةً بدأ أنطوان يديرُ رأسه يميناً ويسارا. بسرعةٍ فائقة.
لكنّ أنطوان يرفض. وكأنّني لستُ موجودة. ولا أدري ماذا أفعل؟
أنطوان هلْ هيَ الأصوات ؟ قلْ لها أن تتوقّف. أنظر إليَّ.لا أحد غيري هنا. لا أحد.
أنطوان يعيش خارج هذا الزمن خارج هذا الفضاء. ولا شيء سيجعله يتوقّف.تمضي خمس دقائق. من الصعب جدّاً أنْ أفهم ما حدث أو أنْ أفسّر شحنة الاضطراب تلك. أبقى صامتة
….إنّها الثامنة. قالتْ إنّها ستعود في الثامنة.
أين هي الآن؟ عندما وصلتُ كانت الساعةُ تشيرُ إلى السابعة. وصلتُ في موعدي مبلّلة قليلاً مرتبكةً كثيراً. وضعتُ حذائي قربَ الباب.خلعتُ سترتي الشتائية ولحقتُ بها نحو الصالون. كانتْ متحمّسةً جدّاً دعتْني إلى الجلوسِ بترحيبٍ يزيد فقط من ارتباكي. ثمّ صعدتْ إلى فوق. يبدو أنّ هناك غرفاً في الطابق الأوّل.. تفحّصتُ البيتَ ركناً ركناً. بيتٌ متواضع لأمٍّ عزباء وولدها. مرتّبٌ أنيق لكنّه لا يشبه بيتي. حيطانٌ قاحلة.
أتذكّر قولَ أمي: “بيتٌ بلا صور. بيتٌ دفن ماضيه”
عادتْ نادين جميلة جدّاً بعد لحظاتٍ ومعها أنطوان.
إذنْ هذا هو أنطوان !
كمْ حدَّثَتْني عنه.وعن معاناتها نفسيّاً وماديّاً مع مرضه..
هذا هو أنطوان. إنّه يبدو ولداً عاديّاً.
هذهِ زميلتي في العمل أنطوان وهي من ستهتمّ بكَ هذا المساء ريثما أعود”.
حيّيت أنطوان لكنّه كان غائبا عنّا. كان يضمُّ كمشةً من الأوراق إلى صدره. ملابسه نظيفة. يداه متّسختان.”أنتِ صديقةٌ رائعة. هذا المساء مهمّ بالنسبة إلي وذاكَ الرجل أيضاً ويجبُ عليّ أن أقابلَه. أشكركِ لأنّكِ وافقت.
هذا يسعدني فهي امرأةٌ طيّبة وشجاعة. ثمّ أنا لستُ مستعجلة.لكن أينَ هيَ ؟ هلْ أكلّمها على الهاتف ؟لا.لا.
أتداركُ قلقي وأتوقّفُ لحظةً عن التفكير فيها وعن النظر إلى حذائي قرب الباب.
يمرُّ الوقت بغير بطء، بغير سرعة.
يمر الوقت وقدْ أصبحتُ غير قادرة على التحكم في ارتباكي وقلقي.
أنطوان يسترقُ نظراتٍ خفيفة سريعة. يشجعني الأمر فعلاً فأقترب منه قليلاً.
أفهم ذلك دعوةً للحديث. ينظر إليَّ بعينين كما البحر بأزرق عميق. لكنّه سرعان ما يعود إلى الغوص في أوراقه المرتّبة فوق حجره.
أنطوان يجلس فوقَ مقعده. في يده اليمنى قلم رصاص وفي اليسرى ثلاثة أقلام حبر. يحبُّ اللون الأسود. بقعُ حبرٍ أسود جفّتْ فوقَ بشرته البيضاء.أصابعه مشنّجة ونحيفة ومع ذلك أجدها مدهشة.
كيف أبادر بالحديث؟ لايهمّ. عليّ أن أتكلّم.
أنطوان، ماذا ستصنعُ باللون الأسود ؟ لا أظنّ أنّه يصلح للكثيرِ منَ الأشياء. بل لا يصلح لأي شيء. لا شيء غير الظلام؟
أجِبني. ألا تظنُّ ذلك.؟
لمْ يُجبْ.
أنظر حولي. أحاول أنْ أجدَ شيئاً قدْ يثير انتباهه. لا أجد سوى علبة أقلام ملوّنة على الأرض. ألتقط قلماً وأقول له:
حسناً أنطوان، جرّب هذا اللون. هذا لونٌ أصفر.
أتريدُ أن نرسمَ شيئاً أصفر؟
يقتربَ منّي وهو ينظرُ إليَّ مباشرةً في عينيّ. تتسمّر شفتاي.. بعدها وبقلمه الأسود يخطّ على وجهي. يضحك ناظرا إليّ. أضحك لأنّ أنطوان صنعَ من اللونِ الأسود ابتسامته.
نعم. اللون الأسود،إذن، يصلح لأشياء أخرى.
أود تقبيله. أتراجع متذكرة وصية نادين :
يصبح أنطوان عدوانيّا لمجرد أن نفاجئه بلمسةٍ خفيفة
مازال القلم الأصفر بيدي.
أنطوان، هل أرسمُ شيئاً على الورقة ؟ أنظر إنّها دائرة صغيرة صفراء. إنّها الشمس. وهاته الخطوط الصغيرة حولها أشعّة. هل أعجبتك؟
يأخذ الورقةَ ويضعها على خدّه كأنّه يتحسّس دفء الشمس.. دفء الأصفر.
Comments (0)