يحتوي ديوان الشاعرة مليكة العاصمي ” أشياء تراودها ” على أربعة عشر قصيدة، وقد تم تقسيمه إلى جزأين: الأول بعنوان: أشياء تراودها كعنوان رئيسي تندرج ضمنه ثمان قصائد. في حين يضم الجزء الثاني الموسوم بعنوان “مدن من سراديبها” ست قصائد. وقد تميزت قصائد الجزء الأول من الديوان ” أشياء تراودها”، بنفسها القصير، وإيقاعها السريع، ولغتها الباذخة.
وللإشارة فالديوان صدر عن بيت الشعر بالمغرب، بدعم من وزارة الثقافة المغربية سنة 2015
تتوزع تيمات الديوان بين وصف تحولات المكان، وعنفه، وقسوته، بالإضافة الى تضمين الحكاية، والإرتكاز على جماليتي الاستعارة، والتكرار. في حين لمسنا لجوء مثيرا نحو الشخصنة لرصد صراع الذات، وإبراز جنون الحب، مع إشارة خاطفة الى سنوات الرصاص والجمر.
وهو ما يجعل من ديوان أشياء تراودها ( كتاب العصف)، فسيفساء شعري كتب بأنفاس مختلفة، لنتساءل عن خلقيته الإبداعية والجمالية، وعن أبعاده الفنية.
أولا: تحولات المكان
تبرز تحولات المكان، والأشياء، عبر تطويع اللغة الشعرية،لإنشاء صور تنساب في تداع آسر، قصائد تضم بين حناياها نتفا من اللغة العامية الحاملة لحكم، وعبر كبيرة. تقول الشاعرة في قصيدة ” مستنقع” [1]“باش قتلتي باش تموت أملك الموت”
عبارة مسكوكة تختزل نهايات موجعة، وإعلانا أخيرا لنهاية الكون، وحلول الفناء. وقد تمكنت الشاعرة مليكة العاصمي، من السير بتدرج بمتلقي القصيدة عبر مراحل تجسدت في: اللعنة، ثم المسخ:
إنها اللعنة التي تحل بالمخلوق اللعين الذي لا عاصم له في يوم حالك من أمر كان مفعولا. فهل يكشف المستنقع عن المآل النهائي للبشرية وهو يصورها بهذه القسوة الكبيرة؟ أليس المستنقع مجرد صورة مصغرة لوطن القمع، والعنف؟ أليس مجرد صورة مصغرة للديكتاتوريات المعاصرة؟
فإذا كان المستنقع، صورة مبهمة عن مكان في الذاكرة، فإن تجليات أمكنة أخرى ستبدو جلية كما في قصيدة “مراكش”، عبر شخصنة مكوناتها، إلى طيف عجيب تقول الشاعرة:
“تخرجين من الليل مثل اليواقيت والجنيات”[4]، وتضفي عليها العديد من الصفات من قبيل:
إنها مراكش جنة الشاعرة الطافحة بالأغاريد الضاحكات، الرقراقة والوارفة .
مكان يتحول عبر شخصنته إلى مخاطب عال المقام، بهي الطلعة محفوف بالرهبة، والطهر، والقداسة. ببساطة سحره الذي يسكنها إلى حد كبير. مكان أو أمكنة نحملها معنا أينما رحلنا أو ارتحلنا.
كما تتحول الذات الشاعرة الى مكان، كما في قصيدة “زوابع طنجة”[11] حيث تعلوا الأسئلة الحارقة، لتكشف عن مواجعها، ورؤى سراديبها الهادرة. أسئلة بقدر ما انتشرت في المدى القزحي، تداريها في غياهب الذاكرة الماطرة كغيمة.
لقد أحصينا مجموعة من الأسئلة داخل هذه القصيدة منتهية بعلامات استفهام، خصوصا في اللوحتين الأولى والثانية. في حين سنلاحظ غياب هذه العلامة في الأسئلة الموظفة في اللوحات المتبقية وعددها عشرة.. وقد توزعت بين ما هو ذاتي، وما هو موضوعي.
“كيف أترك هذا المساء/ دمي يتدفق/ مندلقا/ في حوافي المدينة؟
لقد شكلت الذات الشاعرة في حوارها الوجودي مع مكونات المكان جزء من طنجة بفعل هياج الروح وهياج الطبيعة، وهو ما يكشف نوعا من إلتحام الأرض بالجسد وتخومه القصية عبر شخصنة بديعة:
اقتران ذات الشاعرة بالمكان، هو اقتران أبدي لكون رحيل الطبيعة مثل رحيل الروح، حيث يبدأ نزيف الذاكرة، ولا يتبقى مجرد خراب. فالمكانة التي حظيت بها طنجة في هذه القصيدة كشفت عن تماهي والتحام مطلق بين الذات والمكان، وتحوله الى فضاء أرحب للشدو، والدفء، والشجو، والهديل… كما كشفت عن تضارب الأحاسيس والمشاعر، وعرت عن حالات نفسية عصية أحيانا، ولدت شوقا، وخيرة، وحنينا، وإحساسا بالألم.
وهي مشاعر يكشف عن طبيعتها كذلك التشكيل البصري للقصيدة، وطريقة رسم الكلمات بشكل عمودي، للتعبير نفسيا عن السقوط الذي تتم ترجمته على شكل نزيف قاسي للذاكرة، ولألم الذات البغيض. عن مجزرة في الميان، وفي الروح، وعن احتقان كبير. لتضحى زوابع طنجة، هي زوابع الذات الاكثر وقعا ونزيفا على الاطلاق في هذا الديوان بما خلفته من جرح في أخاديد الجسد. كما غي هذا المقطع
في حين تكشف قصيدة” ثلاثية طنجة”[19] وهي قصيدة محفوفة بقصة خاصة، لفتت انتباه الشاعر الكبير محمد السرغيني الذي كتب عنها قصيدة أخرى، وكذلك الشاعر محمد الطريبق الذي أثنى عليها بقصيدة أخرى. وآترت الشاعرة إلا أن توشحها بهذا العنوان المائز، وكان أمل الشاعرة أن تدرج إلى جانبها تلك القصائد الموازية.
ويمكن اعتبار هذه القصيدة التي جاءت في الجزء الثاني من هذا الديوان، “مدن من سراديبها”، أيقونة هذه الباقة الجميلة، بما حوته من صور باذخة وناطقة كشفت عن مشاعر البسطاء من أهل طنجة، وتحدثت بلسانهم من خلال رصد الشاعرة لأحد مكونات الحياة كالنوارس، واليمام، وشخصنة الأوضاع على لسان حالهم:
ثلاثية طنجة قصيدة، عميقة فاتنة بتوغلها العميق والجارف، الكاشف عما يختلج بالأعماق، وفي الحنايا من أحزان، وأشجان.
سنلمس هذه النبرة الحزينة كذلك في قصيدة، ” رياح الشتاء” وهي قصيدة تعري عن آلام الذات وإحساسها بالموت، والرتابة، والحزن في لحظات تكتسيها الرتابة، والقلق:
فالصورة التي تشيدها الشاعرة مليكة العاصمي، عن رياح الشتاء، تمنحها هالة كفيلة بإحداث كارثة. غير أنها ستعمل في الجزء الأخير من القصيدة على إفراغها من ذلك.
لقد تمكنت الشاعرة عبر توظيف الشخصنة من أن تخلق حوارا رهيبا بين مكونات الطبيعة، ضمن سياق تفاعلها مع الذات لتنجلي كعوالم متخيلة، تفيض بالمعاني، والدلالات.
ثانيا – جمالية الاستعارة، وجمالية التكرار
تكتسي الاستعارة أهمية بالغة جماليا في بناء الصورة الفنية، بنوع من الدقة لذى الشاعرة مليكة العاصمي، استعارة تتخذ كمدخل للشخصنة، من قبيل ” تنتحب السماء”[24]، “تنتحب عناقيد الدوالي”[25] “كم أعرق الصبح جنونها”[26] وهي استعارة ستبرز المسار الذي تقطعه قطرات الماء( الندى)، كي تحط عل الخمائل والدوالي، والمروج بنوع من الدقة في الوصف، والتشييد. وهو ما يكشف جمالية الصنعة.
في حين تبرز جمالية التكرار، في قصيدة” فاصلة”، التي يتكرر فيها مصطلح (فاصلة) سبع مرات لتأكيد أهميتها كهاتكة للحجب، والأسرار، ولدورها الحاسم في الفصل بين الذات، “واشتاؤها”.
إنها فاصلة مجنونة مليئة بالألم والانين، منذ الأزل، إنها نهاية لهب يتراقص كقداس مريم أو تفاحة أدم، أو غمام يحوم حول المرايا، وأطياف حالمة، تمتص حرائق مالحة.. إنها فاصلة الأقاصي والجراح، مناحة ليلى المريضة العراق، ونحيب خرائب ذات أمير يبكي الأخيلية. لقد استطاعت الشاعرة مليكة العاصمي أن ترصد كونية وهوية الفاصلة، المعربدة بين طيات المعنى، لتكشف عن هالة قسوتها الضارية في الحنايا.
وسنلمس جمالية التكرار كذلك في قصيدة” مدن من سراديبها”[30] من خلال ما تعلنه العتبة من توغل في أعماق الذات الشاعرة، وأسرارها وهي تصدح بما فاتها أن تفعله، أو كان عليها القيام به، وكأنها تكشف عن أحلام مؤجلة، أو رغبات موءودة، أبرزها اللجوء الى تمرير مجموعة من المصطلحات التي شكلت بدورها مفاتيح أساسية لتفكيك شفرات النص المنتقد للواقع الاجتماعي، من قبيل:
تكرار على امتداد الصفحات(46 ، 47، 48،4 9، 51..52).
وتكشف مقاطع القصيدة عبر خمسة عشر لوحة أو مشهدا، ما فات الشاعرة أن تقوم به، وهي توجه اللوم لنفسها، تنتقدها بقسوة في ظاهر الأمر، لكن في الواقع كانت انتقادات موجهة بسخرية لهنات المجتمع، وللنظام ككل. وهي تقلب الطاولة في نهاية القصيدة:
إنها قصائد ذات طابع تأملي، تشيد عوالمها وفق صور مفارقة في الغالب كما هو الأمر في نص ” مقصلة” حيث يتميز البناء بالتوازي عبر مسارين ومكون من صورتين: الصورة الأولى العناكب التي أسدلت خيوطها على أريكة ثم سرعان ما مجت خيوطها فتخسف الأرض، وبالتالي اختفاء الأريكة. والمتجسدة في قفلة القصيدة حيث ستبرزها تناصها مع العتبة ” مقصلة” ، لنستنتج أنها نفس المقصلة التي ستطرزها العناكب. في حين تنجلي الصورة الثانية بشكل مجازي تعبيرا عن الزمن
فبين تربص العناكب، وصراع الذات والزمن تنجلي أبعاد العوالم الجديدة المشيدة على حافة الجنون، حيث تفتح القصيدة أبوابها ويتوارى الواقع في زواياه المعتمة تعبيرا عن العبور نحو مقصلة زمن بغيض. زمن الوجع، والجحيم الذي تفر منه ساكنة مدينة مصادرة أحلامهم وهم غارقون في أناتهم وصياحهم كما في قصيدة “وجع”.
إنها مدينة تصعد لوعتها حارقة، من جحيم الظلام، وقد ” سال نداها/على جنبات الوسائد”
مدينة تتوسد فجائعها، وتشرع حلمها للنسيان، كلما داهمت قلبها نوبة،
فالإحالة في هذه للقصيدة، تفتح كوة في سديم الأقبية، وتكشف أسرار سنوات الرصاص والجمر، بأنينها، وبكائها، وفظاعاتها، واستبدادها.
رابعا – ملامح التجريب في الكتابة الشعرية
في قصيدة “المساء الأخير” نلمس توظيف لغة تمتح من التجريب أهم معالمه، لغة ترتكز على الاستبدال اللغوي، دون الاخلال بالمعنى الأصلي. وهو أمر يتم كذلك عبر الاستعارة لبناء الصورة الفنية.
هكذا تتحول الذات العاشقة، إلى ذات طيعة قابلة للتشكل، كبلها الحب حد الجنون:
إن نبذ الذات العاشقة لنفسها، هو نبذ ناتج عن الإحساس بعدم طهر ذاته وتلوثها، لانها مصابة برجس”جيفة”، وبالتالي يصبح تحمله لكل الأذى هو هدف في سبيل تطهيرها ولو بشكل سادي:
وسيلاحظ المتلقي، مدى السخاء الذي يتمتع به المحب وهو يضع ذاته على سرير التعذيب السادي فرطا من الوجد، إحساسا بالدنس. وهي صور تداعت وفق تشييد تقابلي فريد:
فالجنون تحرر وانطلاق خارج التعاليم، قفز على الحدود، وخرق للوصايا. تحرير الذات من أجل إنطلاقة جديدة. هكذا تطلع علينا قصيدة “جنون” لتكشف عن بناء عالم متخيل نبق فجأة في رأس الشاعرة، وهي تشيد عالمها على خط رفيع بين العجائبي والغرائبي، وتحولها لكائن يمتلك قوى فوق إنسانية.
وتبرز عدوانية هذا المخلوق الجديد الذي يتمادى في تصريف عنفه وعدوانيته، وهو يفتن، ويصفع، وينتف، ويقمش، ويدس أصابع كفه في أعين الأعداء، يسطح رؤوس العابرين، يرجم، يحرق، يصنع كارثة في الكون. بعدوانية صارخة يصدح:
ليبقى السؤال مطروحا ماذا سيحدث بعد الذي أحدثه هذا المجنون في رأسه؟
إنها محاولة لتفجير مكبوت الذات عبر تحريرها المطلق، وانفلات كل ضوابطها المعهودة، لنهمس ضاحكين من جنون فاق كل التطلعات.
إننا ازاء كتابة يمتزج فيها الشعر بالسرد بالحكاية، وهذه الاخيرة تتحول الى مكون أساسي في بناء القصيدة. كما في نص “الغول”، الذي يبرز طرحنا، بنزوح الشاعرة نحو تضمين مكون الحكاية ضمن قالب شعري مثير، اعتمادا عل التطويع، والتجريب بلغة واصفة ترتكز على المبالغة والوصف، لإضفاء هالة على شخص الغول. كما توظف مجموعة من الاصوات لتنفح النص بمزيد من الواقعية من قبيل:
لقد انتصر هذا الديوان للقصيدة الشعرية بما نفحها من إضافات وجماليات، وكشف عن تحول بعض الأمكنة، وعن عنف الواقع وقسوته، وعن آلام الذات الشاعرة. “أشياء تراودها” نبش في المتهدم الذاتي، وفي الذاكرة التي عمل على تحريرها عبر الإرتكاز على الاستعارة، والوصف، والمجاز، والتكرار، ليضح فسيفساء شعريا مكتوبا بأنفاس مختلفة بإشاراته الواخزة والمنتقدة للواقع وقسوته وإحباطاته.إنها كتابة تجريبية بامتياز نزعت احيانا نحو الشخصنة لإبلاغ رسائلها المشفرة على لسان مكونات الطبيعة، ولتبرز أحاسيسها الداخلية، وجنونها، ولتمرير العديد من المواقف الخاصة.
Comments (0)